ربما تشكل زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لدولة الإمارات على هامش مؤتمر “كوب 28″ فرصة في شأن جهود إنهاء الصراع في السودان، أو وقف إطلاق النار بين الجيش و”الدعم السريع” في أقل تقدير.
وقد تكون المؤشرات الدالة على هذه الفرضية مرتبطة بموقفين استباقيين للخارجية الأميركية، التي على رغم انشغالها المطلق بأمن غزة، باعتبار أن له علاقة عضوية بحليفها الاستراتيجي إسرائيل، فإنها تتحرك في الملف السوداني، الذي نسيه الجميع لأكثر من شهر، على رغم تطوراته المقلقة على الصعيدين العسكري والإنساني، وكذلك تأثيره الإقليمي متعدد الأبعاد.
في هذا السياق، أقدمت واشنطن على الإعلان عن اتصال هاتفي بين بلينكن ونظيره الإماراتي عبدالله بن زايد آل نهيان، وكشفت أيضاً عن المحتوى المتداول بين الوزيرين خلال المكالمة، إذ إنه إلى جانب تعرضه لملف غزة، فإنه تعرض للصراع السوداني، وضرورة إنهائه تحجيماً للمأساة الإنسانية، التي أنتجها الصراع، وهي الأزمة التي جعلت ملايين من السودانيين يواجهون الجوع، وملايين أخرى للنزوح واللجوء إلى دول الجوار، وكذلك تفشي وباء الكوليرا في أربع ولايات سودانية.
أما الموقف الثاني للخارجية الأميركية فهو صدور بيان قبيل المحادثة الهاتفية سالفة الذكر من المتحدث باسم الخارجية الأميركية صمويل روبنبرغ خصصه للملف السوداني منفرداً، مطالباً الأطراف بضرورة إنهاء الصراع الممتد أشهراً.
أمن البحر الأحمر
وإذا كان الموقف الأميركي يتبلور في هذه الآونة، وينشط علناً تحت مظلة الأزمة الإنسانية السودانية فإن المسكوت عنه في هذا الخطاب الأميركي هو ارتباطه بتجدد مشهد تهديد أمن البحر الأحمر، بل وتوسعه، إذ شكل ذلك إنذاراً باللون الأحمر لجميع الأطراف، وطرح إمكانية اتساع مستوى التهديدات وانتشارها هذه المرة من السواحل السودانية، مضافة بذلك إلى السواحل اليمينة، مما وضع الصراع السوداني على قمة الأجندة الأميركية، وذلك بعد الحادثة الأخيرة التي استولت فيها ميليشيات الحوثي على سفينة يملكها رجل أعمال إسرائيلي، بما يعكسه ذلك من تهديد لحجم ضخم من المصالح على نحو مضاعف، خصوصاً أن التفاعلات السودانية العسكرية الراهنة تسير نحو الفوضى الشاملة، بعد إعلان “الدعم السريع” استهدافها السيطرة على كامل التراب السوداني من ناحية، وطبيعة ردود الفعل المضادة لهذا الإعلان من أطراف مسلحة أخرى، سواء على صعيد الفصائل المسلحة الدارفورية، أو على صعيد القبائل السودانية من ناحية أخرى، إذ تستعد بعض القبائل بدعم قدراتها التسليحية للمواجهة المرتقبة مع “الدعم السريع”، وربما يكون المشهد في مدينة الفاشر بشمال دارفور كاشفاً.
الشاهد هنا أن السواحل السودانية على البحر الأحمر تبدو مهددة بفوضى ممتدة، خصوصاً مع توازنات حرجة في إقليم شرق السودان، وارتباطه بالأمن الاقتصادي لجنوب السودان، حيث مصفاة النفط المصدرة لبتروله، وارتباطه كذلك بالمصالح الإثيوبية، وهي الدولة المهمة لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
بطبيعة الحال، يبدو فتح الملف السوداني مع دولة الإمارات حالياً مطلوباً لهندسة جهود وقف إطلاق النار في ضوء فاعليتها فيه من ناحية، ومصالحها في البحر الأحمر من ناحية أخرى، خصوصاً أن التعاون الأميركي مع أبوظبي سبق أن شهد تنسيقاً في ملف حرب تيغراي، وأنتج هذا التنسيق نجاحاً فعلياً على مستوى جهود وقف الحرب الإثيوبية، من هنا تبدو خطوة التفاهم مع أبوظبي ضرورية لتهيئة مناخ منبر جدة، كي يكون قادراً على النجاح هذه المرة في الملف السوداني، وليس الفشل على النحو الذي جرى خلال الأشهر الماضية بسبب تعنت الأطراف.
هل أصبح “الدعم السريع” مستعداً للتفاوض؟
في هذا السياق، فإن هناك عدداً من العوامل الناتجة من الصراع السوداني من شأنها أن تشكل روافع للمجهود الأميركي في هذه المرحلة، وربما تسهم فعلياً في وقف إطلاق النار، منها إدراك “الدعم السريع” أن إحراز النصر العسكري على الأرض ليس مرتبطاً بتحقيق أهدافها الاستراتيجية بأن تكون القوة المسلحة الوحيدة القائدة في الواقع السوداني، إذ إنها ستواجه أعداءً عسكريين وقبليين أيضاً على طول السودان وعرضه. ثانياً، إنه على رغم إحراز “الدعم السريع” قدرة على التوسع الجغرافي بوقوع كثير من المناطق السودانية تحت سيطرتها، لكنها عاجزة حتى الآن عن السيطرة المركزية على جميع المنتسبين إليها، الذين يمارسون فظائع إنسانية، يدفع ثمنها السياسي والأخلاقي داعمو “الدعم السريع” داخلياً وخارجياً، ولهذا السبب ربما تعجز قيادات “الدعم السريع” عن تشكيل هياكل سياسية رسمية تمكنها من طرح نفسها بديلاً، وتطرح أشكالاً من التنظيمات الشعبية ذات التأثير المحدود لتسيير حياة الناس، التي لن تلقى أي اعتراف بطبيعة الحال على الصعيد الدولي.
أما المسألة الثالثة فهي تبلور اتجاهات دولية متراكمة ضد “الدعم السريع”، وهي الاتجاهات التي يسهم فيها أمران: سياسات التطهير العرقي التي جرى اتخاذها من جانب “الدعم السريع”، خصوصاً في غرب دارفور، وسلوكيات النهب من منازل المواطنين من كل أنحاء السودان إلى حد نزوح الناس من المدن والأرياف التي يُستولى عليها بمجرد دخول قوات “الدعم السريع”. أما الأمر الثاني فهو الفاعلية الكبيرة لجماعات وجمعيات محامي دارفور في التوثيق والتسجيل للانتهاكات التي تجري في إقليمهم، وذلك بعد أن اتجه شباب دارفور لدراسة القانون خلال العقدين الماضيين على خلفية أزمة الإقليم الممتدة منذ عام 2003.
لهذه الأسباب، فإن قوات “الدعم السريع” تبدو مستعدة للتفاوض، حيث جاء على لسان محمد حمدان دقلو (حميدتي) في آخر تسجيل صوتي له أن الانتصارات مهما عظمت لا تشكل إغراءً، ولن تثنيه عن أن التقدم بشجاعة لقبول خيار الحل السياسي الشامل، لمعالجة جذور الأزمة السودانية التاريخية، مؤكداً أن الحرب ليست غاية.
أما على المستوى الإقليمي فإن هناك عوامل لدعم مجهودات وقف إطلاق النار تعززها اتجاهات مجلس الأمن والسلم الأفريقي بالاتحاد الأفريقي بضرورة إيجاد حل للمشكلة السودانية، باعتبارها مؤثرة في جملة من دول شرق وغرب أفريقيا.
الجيش السوداني والتفاوض غير المؤثر
أما على جانب الجيش السوداني فنحن نشهد معضلة حقيقية في شأن موقفه من المفاوضات، فهو لم يحقق انتصارات تضمن له موقفاً تفاوضياً مؤثراً، كما أنه يواجه تحدي العلاقة العضوية مع الجزء الأكثر تشدداً من تيار الإسلام السياسي، الذي يمارس ضغوطاً مستمرة ضد أية تفاعلات تفاوضية تسفر عن وقف إطلاق النار. كما أن هذا التيار لم يؤثر في الموازين العسكرية بشكل إيجابي لصالح الجيش، على رغم مشاركة بعض المنتسبين إليه في المعارك، فضلاً عن كل ذلك فقد رشح أخيراً اتجاه لخلافات بين الفريق عبدالفتاح البرهان وياسر العطا مساعده على قيادة الجيش السوداني، وذلك قبيل زيارة البرهان لأبوظبي على هامش مؤتمر “كوب 28″، وهي الزيارة المأمول منها أن تفضي إلى هندسة تسوية سياسية للأزمة السودانية.
إجمالاً، يبدو تعقد المشهد السوداني على المستوى العسكري ماثلاً، وتبدو الجهود الأميركية مطلوبة بإلحاح، لكنها لن تنجح في تقديرنا إلا بجهود إقليمية رافعة، خصوصاً من كل من القاهرة والرياض وأديس أبابا، وذلك على صعيد توحيد المبادرات المطروحة إقليمياً، لوقف إطلاق النار، وهو المطلب الذي يرفعه المكون المدني السوداني أيضاً من منابر القاهرة وجوبا، إذ إن توحيد هذه المبادرات سيكون أحد أهم أسباب وحدة المدنيين أنفسهم، وهو الطريق الصحيح لتعزيز فرص وقف الحرب السودانية التي أنهكت الجميع داخلياً وإقليمياً، وربما دولياً.