مع بدء تنفيذ الهدنة الإنسانية في غزة فإن السؤال المطروح هو ما التالي؟ بخاصة أن فكرة الهدن الإنسانية ترتبط بمسار طويل ممتد يبدأ بساعات، كما جرى التخطيط له، والانتقال لاحقاً إلى أيام عدة محددة، ومنها إلى الهدن السياسية الحقيقية لوقف إطلاق النار، لا سيما أن تجربة إسرائيل و”حماس” لا تفصح عن كثير من التوقعات الرئيسة التي يمكن التعامل معها في توقيت مهم يرتبط بوقف إطلاق النار والبدء في تبني مقاربة للتهدئة، وهو ما تستهدفه “حماس” وستتجاوب معه إسرائيل بصرف النظر عما يجري ميدانياً، مما يشير إلى مسار طويل وممتد إلى الأهداف الرئيسة لما بعد توقيع الهدنة الإنسانية وبدء تبادل الرهائن المدنيين على الجانبين.
طبيعة الهدنة
ويمكن الإشارة إلى أهم الأهداف الرئيسة التي تحكم أهداف حركة “حماس” المتعلقة بضرورة الخروج من الوضع الراهن والقفز على النتائج المطروحة التي ترتبط بأفكار سبق أن جرى التعرض لها في مستويات معينة، ومنها أن الحركة تعمل في ظل خيارات محددة وهي الاستمرار في المشهد السياسي طرفاً رئيساً، وإطالة أمد التفاوض لكي تبقى في الواقع الفلسطيني الراهن بصرف النظر عن استمرار المواجهات العسكرية بعض الوقت وفق رؤية إسرائيلية وبنك الأهداف المفتوح على مصراعيه، ولن يغلق إلا بعد أن تمضي الأمور في سياقات محددة، والتحرك وفق أساليب عدة مما يؤكد أن حركة “حماس” ستتجاوب مع الطرح الراهن للهدن الإنسانية تباعاً، والمضي في اتجاه مرحلي تدريجي والعمل في مساحة آمنة من الأهداف المهمة وتجاوز الأرقام المطروحة لعدد الأسرى المطلوب الإفراج عنهم أو الشروط أو التصنيفات المعروضة، بخاصة أن حديث الحركة عن فكرة تبييض السجون الإسرائيلية كلام موجه للجمهور الإسرائيلي ويحمل دلالات محددة، لاسيما وأن الحركة تريد أن تبقى في قلب المعادلة الفلسطينية الراهنة وعدم الخروج من المشهد تحت أي مسمى.
وهناك جملة من التحديات الراهنة التي يجب وضعها في الاعتبار ومنها احتمال تعثر الاتفاق الراهن، بخاصة مع استمرار النهج الإسرائيلي في التصعيد وعدم توقف العمليات العسكرية الحالية وفق تصريحات المسؤولين في مجلس الحرب ووزير الدفاع الإسرائيلي في ظل بقاء الدور القطري محدوداً، وتشكك حركة “حماس” في دور الأطراف المعنية على رغم وجود قيادات المكتب السياسي في قطر، وعدم وجود اتفاق جمعي على ما يجري بين الجناح العسكري لحركة “حماس” والمستوى السياسي (المكتب في الداخل والخارج)، وهو ما يفسر الاختفاء الاضطراري للقادة الكبار من أمثال محمد ضيف والاكتفاء بإطلاق تصريحات شعبية تخاطب العواطف على تطبيق “تيليغرام”.
وكذلك التحسب لطبيعة الدور الإيراني الضاغط على قرار حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، بخاصة أن المصالح الإيرانية تطلبت استمرار المواجهات ومحاولة استثمارها، وهو ما مثل نقطة خلاف جوهرية بين حركتي “حماس” و”الجهاد” مع إيران في ظل عدم وجود مؤشرات بتهدئة الأمر على جبهة الشمال، مما يشير إلى أن جبهة غزة هي الأساس بالنسبة إلى الحكومة الإسرائيلية في الوقت الراهن، بخاصة أن استمرار توجيه الضربات من الشمال سيلقي بتبعاته على مسارات أية هدنة لاحقة، أو تثبيت ما يجري الاتفاق في شأنه مع استمرار مراوغة “حزب الله” في التعامل مع تبعات ما سيجري في الهدنة الراهنة.
خيارات عدة
وستظل حركة “حماس” تخطط لتكون الطرف الرئيس في أي تفاوض حول إتمام الهدن تباعاً والإفراج عن الرهائن في ظل مشهد يمضي في سياق من الحسابات السياسية والأمنية، إضافة إلى المخطط الراهن داخل الحركة والانتقال من هدنة إلى أخرى مع البقاء طرفاً رئيساً في المشهد، بخاصة أن الشركاء من الفصائل في قطاع غزة مثل “الجهاد الإسلامي” يلتزمون الصمت، ولن تفتح ملف الرهائن لديها لاعتبارات متعلقة بالمشهد الراهن، وهناك تفاصيل في حدود التنسيق المشترك بين الجانبين.
وهناك مراهنات بأن الجناح العسكري لحركة “حماس” سيظل في الواجهة وستكون له توجهاته الأخرى التي قد تختلف فعلياً عما يجري في المستوى السياسي، وهو ما تتخوف من تداعياته الحكومة الإسرائيلية التي قد تناور لإتمام بعض الهدن لتهدئة الرأي العام بعض الوقت، والعمل على إقناع الجمهور الإسرائيلي بأن الأمر يمضي في إطاره، فيما ستراهن حركة “حماس” على ضوابط عدة أهمها الانتقال تدريجياً إلى العودة إلى تفاهمات سابقة مثلما كان يجري مع تطوير مسار التحرك والانتقال التدريجي من رد الفعل إلى الفعل، مما يعطي دلالات مهمة بأن الحركة تتماسك على الأرض وتفعّل وجودها على رغم كل الخسائر التي تتعرض لها.
رهانات منضبطة
وهناك إشارات مهمة إلى أن “حماس” ستراهن على الوقت وعلى احتمال استمرار المواجهات ولو في حدها الأدنى، ومن ثم فلن تقدم على الخروج من القطاع أو تصفية وجودها، مما يعني أن المخطط الراهن لـ”حماس”، وعلى رغم كل المعوقات الراهنة، قد يتحقق في ظل استمرار الهدن الإنسانية والعمل على الدخول في مرحلة أخرى من تحقيق مكاسب سياسية وأمنية موجهة في المقام الأول إلى الرأي العام الفلسطيني.
وفي مقابل ما يجري فإن الحكومة الإسرائيلية ستعمل في حال إتمام الهدنة الإنسانية على مراجعة وتقييم ما يجري، بخاصة أن لدى إسرائيل حساباتها كحكومة حرب، إذ ستتم مراجعة ما جرى الاتفاق في شأنه داخل الكنيست وأمام لجان المتابعة في وزارة الدفاع، وفي إشارة مهمة بأن إسرائيل لن تقدم على مزيد من الهدن بسرعة إلا بعد أن تتيقن من جدية ما يجري من قبل حركة “حماس”، والانتقال به إلى مرحلة مهمة جديدة، ومن خلال واقع سياسي وأمني مقبول مع عدم التسليم بأي هدن قد تفرض، والانتظار لتقييم الرؤية ومراجعة مجمل السياسات الأمنية والاستراتيجية التي يمكن العمل عليها خلال الفترة المقبلة، بخاصة أن إسرائيل كدولة وحكومة غير متوافقة على ما يمكن أن يتم ويعرض في سياق ما يجري من أحداث، ولديها إجراءات احترازية متعلقة بما هو مطروح من خيارات ومنها أولاً الانتقال تدريجياً لتحقيق هدن إنسانية للإفراج عن الرهائن المدنيين كأولوية مهمة، وفي سياق من الأوضاع المقبولة والانتقال منها إلى خطوات تالية بعد مراجعة مجمل ما يتم التعرض له من مواقف، بخاصة أن التقييم لن يكون سياسياً فقط بل وأمنياً وبحسب قناعة مجلس الحرب بإمكان الاستمرار في نهج التفاوض، والثاني هو الانتقال إلى مسار تصعيدي مستمر وعدم وقف إطلاق النار لاعتبارات متعلقة بإدارة المشهد السياسي والأمني.
ومن ثم فإن وقف إطلاق النار في التوقيت الراهن لن يطرح لاعتبارات متعلقة باستمرار العملية العسكرية الراهنة وإتمام كل أهدافها الرئيسة من المنظور الإسرائيلي، ومنها تدمير البنية الأساس للقطاع كي لا يكون صالحاً للحياة لاحقاً بصرف النظر عن بقاء حركة “حماس” فيه من عدمه، إذ تناور الحكومة الإسرائيلية بالبقاء في القطاع وفي مناطق استراتيجية بطول مناطق التماس وإلى اتجاهات النطاق الاستراتيجي المحدد التي يمكن العمل منها من الشمال إلى شرق فوسط القطاع مع تأمين مناطق الجنوب.
تصورات إسرائيلية
وستقيّم الحكومة الإسرائيلية ما سيجري دورياً، ومن خلال المتابعة ومراقبة ما يتم في مرحلة الهدنة الحالية فستحسم خياراتها الراهنة التي تتعلق بتطوير الخطط الاستراتيجية لمجلس الحرب، وترتبط أساساً بالقدرة على الاستمرار في تنفيذ بنود بنك الأهداف الرئيسة التي لن تتخلى عنها على رغم وجود صراع حقيقي بين المستويين السياسي والعسكري داخل الحكومة من جانب وأجهزة المعلومات وبخاصة جهاز الأمن الداخلي (شاباك) والاستخبارات العسكرية (أمان)، مما قد يعطل بعض ما يتم الاتفاق حوله في الفترة المقبلة، بخاصة مع عدم الحديث عن مخطط محدد لوقف إطلاق النار من قبل إسرائيل، والبقاء في حكم القطاع لبعض الوقت، والانتقال إلى الشريك الرئيس المعني ممثلاً في السلطة الفلسطينية التي ستحاول إسرائيل والإدارة الأميركية تعويم دورها والانتقال بها إلى مساحة مهمة في حكم القطاع على غرار ما جرى في المنطقة (ج)، في إشارة إلى أن إسرائيل ستحتاج إلى مراجعة هيكلية لمجمل السياسات المحتملة والتي تجري في الوقت الراهن في مجلس الحرب.
ويشار إلى أن جلسة الكنيست الأخيرة شهدت نقاشاً حاداً بعد أن طرح وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين الذين اعتقلوا بتهمة دعم “حماس”، أو المشاركة في أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وكان بن غفير أعلن أن حزبه “القوة اليهودية” العضو في تحالف “الصهيونية الدينية” ينوي طرح مشروع القانون وتمريره في الكنيست للشروع بإعدام الأسرى الفلسطينيين المدانين بعمليات قتل فيها يهود، وكان الكنيست قد صدق بقراءة تمهيدية على مشروع قانون يتيح فرض عقوبة الإعدام بحق أسرى فلسطينيين مدانين بقتل إسرائيليين تقدم به بن غفير وأيده نتنياهو وقوبل بموجة انتقاد فلسطينية.
الخلاصات الأخيرة
يمكن التأكيد إذاً على أن المرحلة التالية لن تكون متعلقة فقط بملف الرهائن المدنيين، وإنما بالشروع أيضاً في الأسرى العسكريين، وهذا مكمن الخطورة التي يمكن التوقف عندها بخاصة أنه لا تزال لدى حركة “حماس” جثامين عدة من الصفقة الأخيرة وعدد من الجنود، ومن ثم فإن المخاوف الإسرائيلية من استمرار المخطط نفسه أو احتمال الذهاب إلى توسيع نطاق الأطراف في هذا الملف بإدخال إيران عبر تسليم عدد منهم أو إلى روسيا، مما قد ينقل رسائل سلبية حول ما يمكن أن يجري بخاصة وأن حركة “حماس” تضغط في اتجاه محدد، وهو العزف على عنصر الوقت مما قد يؤدي إلى سيناريوهات محددة تخطط لتفاصيلها حركة “حماس” جيداً، وتعمل عليها مما قد يؤدي إلى سيناريوهات أخرى مقابلة.