ليس أمراً قليل الدلالات أن تتسلط كل الأضواء على حرب غزة وتضع حرب أوكرانيا في الظل
فقد كان ليون تروتسكي يقول لتأكيد نظريته عن الثورة الدائمة والحرب الدائمة “قد لا تكون مهتماً بالحرب، لكن الحرب مهتمة بك”. وهذا ما يختبره العالم مجدداً في حربين دائرتين حالياً. واحدة في أوروبا بعد ثلاثة أرباع القرن على نهاية الحرب العالمية الثانية. وأخرى في الشرق الأوسط الذي لم تتوقف الحروب والصراعات فيه وعليه. الأولى وصل التأثر الاقتصادي بها إلى كل بيت في أي بلد، وسط أخطر صراع جيوسياسي بين الكبار عبر حرب ساخنة بعد نهاية الحرب الباردة وبدء نسخة جديدة من حرب باردة مختلفة. والثانية أعادت الشرق الأوسط وقضية فلسطين إلى قمة الاهتمام الإقليمي والدولي بعد سنوات من الإهمال، وسط سخط عربي وإسلامي على الغرب الأميركي والأوروبي من دون صراع حاد بين الكبار. وليس أمراً قليل الدلالات أن تتسلط كل الأضواء على حرب غزة وتضع حرب أوكرانيا في الظل. فالشرق الأوسط ليس أهم من أوروبا التي لا حرب عالمية إن لم تبدأ فيها. غير أن القضايا المتفجرة فيه، وبخاصة منها قضية فلسطين المحتلة وحقوق شعبها وتأثير العامل الإسرائيلي في عواصم العالم، تصل شظاياها إلى كل مكان. ولها حساسية كبيرة وحسابات استراتيجية وجيوسياسية بحيث تبدو حرب غزة الآن محور الصراعات الإقليمية والدولية.
ذلك أن حرب غزة، بما سبقها من “طوفان” زلزل إسرائيل وما يدور فيها من توحش إسرائيلي أعاد التذكير بحروب هولاكو وجنكيز خان، كشفت عن ثلاثة أمور مهمة، أولها أن تقليل أهمية الشرق الأوسط للتركيز على الصراع والتنافس في الشرق الأقصى كان أكبر خطأ ارتكبته أميركا منذ رئاسة باراك أوباما، وثانيها أن أميركا تأخذ الدور الأول في اللعبة حين تنخرط في الصراع على رغم انحيازها الأعمى إلى إسرائيل وعدوانها، بحيث تكسف أدوار الصين وروسيا، وثالثها أن في فلسطين جيلاً جديداً يتولى الصراع بشكل حاسم مهما تكن الكلفة، وأن في أميركا وأوروبا جيلاً جديداً ينزل إلى الشوارع نصرة للشعب الفلسطيني وحقه، فلا تأثير عليه للأساطير والدعاية والغيبيات الصهيونية.
لكن حرب أوكرانيا لم تفقد أهميتها في عيون شعبها وعيون الغازي الروسي الرئيس فلاديمير بوتين وعيون القادة في أميركا وأوروبا الذين يدعمون كييف بكل شيء، ومن الطبيعي أن يشكو الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من “أن العالم اليوم لا يركز على ساحة المعركة في أوكرانيا بسبب الأزمة في الشرق الأوسط”. وهو سمع وزير الخارجية البريطاني الجديد والرئيس الأسبق للحكومة ديفيد كاميرون يقول له في كييف “سنستمر في الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري، ولا نركز اهتمامنا على مكان آخر كما يظن الروس”. وسمع الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير يقول “أوكرانيا تحتاج إلى دعمنا بشكل أكبر بعدما اندلعت حرب في الشرق الأوسط، وبوتين يخطئ في حساباته حول نسيان العالم أوكرانيا”. وكان الرئيس الأميركي جو بايدن سبق الجميع في تأكيد الدعم الأميركي المستمر عبر مطالبة الكونغرس بتخصيص 61 مليار دولار لأوكرانيا بعد 113 مليار دولار قدمتها واشنطن منذ بداية الحرب.
وكما في حرب أوكرانيا كذلك في حرب غزة: ازدواجية المعايير، القوى التي تنتقد الغارات الروسية على المدنيين والبنية التحتية في أوكرانيا تصمت عن التوحش الإسرائيلي ثم تقول شيئاً لرفع العتب عندما يصبح التوحش فوق الحدود في غزة، والقوى التي تدين التوحش الإسرائيلي تصمت عن أقصى العنف الروسي في أوكرانيا. وكما دارت تكهنات حول توسيع حرب أوكرانيا تدور حالياً تلويحات بتوسيع حرب غزة وتحذيرات من ذلك، لكن الواقع أنه لا توسيع حرب أوكرانيا بدا ممكناً من دون مضاعفات خطرة تقود إلى حرب عالمية نووية، ولا توسيع حرب غزة سوى وصفة لأخطار على الشرق الأوسط كله، كما على مصالح الكبار في الإقليم والعالم.
ألم يقل الفيلسوف هيغل.. “التاريخ للحرب وليس للسلام تاريخ”.