أخذ الطبيب المختص في الصحة النفسية محمود البراغيثي يصفق أمام الأطفال ويقفز في الهواء داخل مركز إيواء للنازحين جنوب قطاع غزة، وكان يفعل ذلك ليجلب الصغار حوله، لكن لا أحد من القاصرين اكترث لما يفعله.
حاول محمود بطريقة أخرى جذب انتباه الأطفال، وشغل موسيقى تحفيزية على مكبر الصوت، وكان ينادي على مايكروفون الصغار قائلاً “هيا يا أحباب تجمعوا حولي سنقيم حفلة لعب وستوزع الهدايا عليكم”، وأيضاً لم يعره أي طفل اهتمامه.
منهكون في توفير مقومات الحياة
كان الأطفال في المدرسة التي تحولت لمركز إيواء النازحين التابع لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، منشغلين في تعبئة المياه في عبوات بلاستيكية، يوزعونها في غرف الفصول الدراسية التي باتت مكاناً آمناً للنوم وقضاء الفترة الصعبة في ظل الحرب المستعرة بين إسرائيل وحركة “حماس”.
يقول المتخصص النفسي “حبست دموعي أمام هذا المشهد، لقد كبر أطفال غزة وهم صغار، إنه صراع للبقاء على قيد الحياة، فالطفل يساعد والده أو والدته في نقل مياه الشرب، ويساعد في أنشطة منزلية مثل تنظيف غرف الفصل وكنسها، ويقف في طابور الخبز الطويل، لم يعد يسعى الصغار للعب مع أقرانهم وتفقد أصدقائهم”.
لم يصب محمود باليأس، وخاطب أولياء أمور الأطفال وطلب منهم إذن اصطحاب أبنائهم معه لجلسة تفريغ نفسي، كان عامل الإغاثة يمسك الصغار من أيديهم، ويجمعهم حوله، واستمر كذلك حتى تمكن من تشكيل دائرة قطرها 100 متر.
يضيف “في كل مركز إيواء هناك ألف طفل جميعهم عاشوا ظروفاً قاسية ويعانون من صدمات نفسية صعبة، ما يحاول فريق الدعم النفسي القيام به هو تخفيف حدة الصدمات، لكن كثيراً ما نفشل في هذه المهمة”.
أنشطة ورسوم
بواسطة فرشاة تلوين أخذ محمود يرسم على وجوه الأطفال ابتسامات ورسوم، ويرفع المرآة أمام وجوههم ليريهم ما رسم، ويطلق على كل طفل اسم الشخصية التي رسمها على وجوه، يؤكد الطبيب أن الأطفال في غزة يعشقون الحياة ويكرهون القصف والدمار.
على وجه الطفل زياد رسم المتخصص النفسي محمود شخصية “توم” من مسلسل الكرتون الشهير “توم وجيري”، وأطلق عليه اسم “توم”، وهكذا فعل مع مجموعة من الصغار، وقرر أن يلعب معهم لعبة شد الحبل.
بسرعة تحمس الصغار وأخذوا يشدون الحبل تارة باتجاه اليمين ومرة نحو اليسار، واستمروا كذلك حتى أغارت الطائرات الإسرائيلية بالقرب من مركز الإيواء الذي يقع في مدينة خان يونس، فهربوا على الفور كل واحد باتجاه أهله.
“بلحظة نسي هؤلاء جو المرح وعاد الخوف إلى نفوسهم من جديد” يقول الطبيب النفسي، وما إن هدأ القصف استكمل الأطفال اللعب، وتساءل محمود بحزن كيف أن القصف يلاحق الأطفال حتى في أوقات التفريغ النفسي.
إسعافات نفسية أولية
عندما تغير الطائرات يركز محمود على تهدئة الأطفال بعد دخولهم في حالة من الرعب والصراخ، بالغناء بصوت عالٍ وإشراكهم في نشاط سريع يلفت انتباههم بعيداً من القصف أو إنهاء النشاط في حال الشعور بالخطر.
تستمر فعاليات التفريغ النفسي لمدة ساعتين على الأكثر، لكن محمود يؤكد أن ذلك غير كاف وما يقومون به عبارة عن إسعافات نفسية أولية تخفف قليلاً من الألم، لافتاً إلى أن الأطفال يتفاعلون بصعوبة مع الأنشطة وأن هناك الكثير من المشكلات النفسية ستظهر في المستقبل.
وتقول اختصاصية التخاطب والدعم النفسي وفاء أبو جلالة إن الأطفال هم الفئة الأكثر تضرراً في الحروب التي تترك فيهم آثاراً نفسية كبيرة، وهو ما يستوجب تدخلاً سريعاً لترميمها بتقديم الدعم النفسي فور وقوع الحدث الصادم، لذلك تقوم فرق الدعم النفسي في تقديم إسعافات أولية نفسية، وهذا يضفي نوعاً من الراحة عند الصغار لكن ذلك ليس الشعور الحقيقي، وتظهر لاحقاً أعراض الخوف الشديد.
وتضيف: “تختلف الأعراض من طفل لآخر بين الكوابيس الليلية والتبول اللاإرادي وتذكر المشاهد الدامية، ويعالج ذلك بالدعم النفسي العميق بالألعاب والسيكودراما والرسم والجلسات الفردية والجماعية، لكن يجب ألا يكون في فترة الحرب”.
800 ألف بحاجة لدعم
عن طريق الرسم، يفرغ الأطفال ما يدور في نفوسهم، وبحسب ملاحظات أبو جلالة فإن الصغار خططوا لوحات بعيدة من الحرب وكانت أغلبها عن الطبيعة والحياة الهادئة، وهذا ربما يشير إلى أن الصغار احتفظوا ببعض السلام النفسي داخلهم.
تؤكد منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف” أن أكثر من مليون طفل في غزة يعيشون حياة الجحيم، ويقول المتحدث باسم المنظمة جيمس إلدر “نتلقى يومياً تقارير تفيد بمقتل أو إصابة مئات الأطفال، هذا يسبب للصغار الآخرين كوارث نفسية، والحل الوحيد لهذه الأزمة هو وقف إطلاق النار”.
ويضيف “التهديدات التي يتعرض لها الأطفال تتجاوز القنابل وقذائف الهاون، هناك تهديدات متزايدة في وفاة صغار بسبب الجفاف خصوصاً عند فئة الرضع”، مشيراً إلى أن أكثر من 800 ألف طفل في غزة بحاجة إلى الدعم الصحي النفسي والاجتماعي.
وبحسب إلدر، فقد شاهد أطفالاً يعانون من اضطراب نفسي بأعراض شديدة مثل التوتر والخوف، وبعضهم الآخر حاول إيذاء نفسه بطرق عنيفة.