تحاول حواء سليمان، دون جدوى، صناعة طعام لأطفالها الخمسة من بقايا مواد غذائية مخزنة داخل مركز إيواء شديد البؤس في مدينة بورتسودان.
لقد وصلت إلى المدينة رفقة أطفالها هربا من جحيم الحرب في الخرطوم بعد أيام قليلة من بدء القتال وبعد أن فقدت الاتصال بزوجها.
وتقول بكلمات يائسة وعين دامعة إنها نجت بأعجوبة مع أطفالها من موت محقق “نجونا أنا وأطفالي بأعجوبة من تفجير استهدف منزلنا في أم درمان مع بداية الحرب، واضطررنا للهرب إلى بورتسودان، وخلال القصف فقدت الاتصال بوالد أبنائي ولا أدري أين هو الآن وإن كان حيا أو ميتا “.
“وجبة واحدة في اليوم”
رغم أن مركز الإيواء يقع على بعد مسافة قريبة من الميناء الرئيسي الذي يستقبل المعونات الإنسانية القادمة من الخارج إلا أن قاطنيه يعانون من الزحام وشح المواد الغذائية.
وتقول حواء الذي ظلت في المركز منذ بداية الحرب ” الوضع سيء جدا حاليا .. ولا نملك شيئا سوى رب العالمين. هنالك وجبة واحدة في اليوم لا تكفينا فنقوم بتقسيمها حتى نأكلها في اليوم التالي. وهذا الأمر أدى إلى إصابة الأطفال بالتسمم والإسهال”.
ربما تلخص قصة حواء، قصة ملايين من السودانيين الذين أجبرتهم الحرب الدموية التي اندلعت في الخرطوم وانتشرت في معظم أرجاء البلاد إثر خلافات بين قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع شبه العسكرية الفريق محمد حمدان دقلو.
وتشير إحصائيات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 5 مليون شخص فروا من مساكنهم ونزحوا إلى مناطق أخرى، وقد جعل هذا الرقم السودان يصبح صاحب أكبر عدد من النازحين على مستوى العالم.
بورتسودان هي واحدة من المدن الآمنة التي لجأت إليها مئات العائلات ومعظمهم من الناس والأطفال، وقد استقر كثير منهم في مراكز إيواء معظمها كانت مدارس موزعة في أنحاء المدينة التي تقع علي ساحل البحر الأحمر.
“قطعة من الجحيم”
مع دخول الحرب شهرها السادس لم يتمكن بعض السكان من الخروج من العاصمة الخرطوم حيث مازالت المعارك علي أشدها بين الطرفين.
ويقول خالد علي وهو معلم مدرسة من سكان مدينة الكلاكلة جنوب الخرطوم إن أوضاعهم صارت ” قطعة من الجحيم”.
وقال وهو يتحدث عبر الهاتف ” مازلنا محاصرين والمعارك لم تتوقف .. قوات الدعم السريع توغلت داخل المنطقة وعاثت فيها فسادا.. فيما يقوم الجيش بقصف مواقعهم داخل الحي .. ويمكن أن تتوقع الموت في أي لحظة”.
ويستطرد ” ليست هناك أي مظاهر للحياة الآن في المنطقة.. لقد انعدم وجود المواد الغذائية ولم نأكل شيئا منذ يومين.. بالنسبة للكهرباء والمياه النظيفة فهي كماليات”.
ويضيف خالد، الذي يعمل أستاذا، أنه ” كان يعتمد على مدخراته المالية طوال الأشهر الماضية، ولكنها انتهت ” الآن أعيش علي المساعدات المالية التي يرسلها لي شقيقي من السعودية عبر تطبيق بنكي يعمل بالموبايل.. أذهب إلى أقرب بقالة لشراء الاحتياجات الأساسية”.
الوضع في دارفور يبدو أكثر سوءا، فمدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفوروالتي شهدت أسوأ أنواع الانتهاكات والتهجير القسري طبقا للأمم المتحدة ما زالت مدينة أشباح كما يصفها سكان المنطقة. أما نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور وأكبر مدن البلاد من حيث الكثافة السكانية بعد العاصمة الخرطوم فقد هجرها أغلب السكان في ظل استمرار القتال العنيف والدموي بين الجيش وقوات الدعم السريع.
“وقف الحرب”
قررت منظمات دولية عديدة البقاء في السودان رغم المخاطر الكبيرة، إذ تقول نائبة ممثل الأمين العام للامم المتحدة كليمنتسلامي إنهم سيعملون على تقديم المساعدات للمتضررين من الحرب “يجب أن نعمل على إيصال المساعدات الإنسانية بالرغم من كل هذه التحديات الكبيرة”.
وطالبت طرفي النزاع الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بالوقف الفوري وطويل الأمد للأعمال العدائية والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية للمتضررين في مختلف أرجاء البلاد.
وأضاف” نريد أن تصمت أصوات البنادق، ونحتاج لوقف لإطلاق النار يسمح لنا بايصال المساعدات الإنسانية للمتضررين وتقييم حجم الاحتياجات، والأهم من ذلك نحتاج إلى وقف دائم لإطلاق النار، نريد لهذا القتال أن يتوقف لإيصال المساعدات وليتمكن السودانيون من مواصلة حياتهم الطبيعية”.
وكشفت المسؤولة الأممية الرفيعة أن نسبة الاستجابة للنداءات الأممية بشأن لمواجهة الأوضاع في السودان بلغت ستة وعشرين في المئة فقط من مجمل أكثر من ملياري دولار.. مضيفة أن عمل الأمم المتحدة في السودان حاليا يعد الأكبر من نوعه رغم وجود تحديات أخرى.
“لاجئون منسيون”
الحرب لم تخيم بظلالها على السودانيين فقطـ بل على آخرين من جنسيات أخرى لم يتمكنوا من المغادرة وما زالوا يعانون من الأمرين.
هنالك عشرات السوريين وعدد قليل من الباكستانيين والهنود، لكن الغالبية العظمي هم سكان جنوب السودان الذي استقروا في مركز إيواء كان مخصصا لسكن طالبات جامعيات.
المركز مكتظ بمئات العائلات التي لم تتمكن من العودة إلى جنوب السودان.
تقول ابيول إنها عانت كثيرا ولم تعد تحتمل مزيدا من المعاناة “فررتُ مع اسرتي من جوبا إلى الخرطوم قبل سنوات وكنت اعيش في معسكر نزوح في مدينة الحاج يوسف.. كنت أتمنى أن أعود لبلدي، ولكن الحرب بدأت في الخرطوم واضطررنا إلى النزوح مرة أخرى إلي بورتسودان”.
وتضيف بلهجة بها كثير من الأسى “وكأن القدر كتب علينا أن نعيش كل حياتنا في معسكرات اللجوء”.
وخلال تجوالي داخل المركز التقيت بلاجئين من دولة الكونغو، منهم بيتر الذي كان طالبا في جامعة أفريقيا العالمية قبل بدء القتال، ولكنه وجد نفسه الآن في مدينة بورتسودان، وبدأ يبيع الفحم ليعيش حياة كريمة وقال لنا : “الوضع في المركز سيء للغاية ولابد من وسيلة للعيش الكريم، لقد قررتُ بيع الفحم للناس هنا .. هي ليست تجارة مربحة، ولكنها تكفي لتعيش حياتك بصورة أفضل”.
ويبدو أن الأمر لا يتوقف على فقدان الأمل بالنسبة لحواء وغيرها من السودانيين من العودة إلي منازلهم بل أصبحت المخاوف أكبر بشان ازدياد عدد المتأثرين بالقتال في ظل اتساع رقعة الحرب بين الجيش والدعم السريع يوما بعد يوم.