في الـ18 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حذر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من تهجير فلسطينيي قطاع غزة إلى سيناء، مشيراً إلى أن تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر سيتبعه تهجيرهم أيضاً من الضفة الغربية إلى الأردن، وشدد على أن بلاده ترفض “تصفية” القضية الفلسطينية لأنه أمر “في غاية الخطورة”. وقال السيسي إن “ما يحدث في غزة الآن ليس عملاً ضد حماس، وإنما محاولة لدفع المدنيين إلى اللجوء والهجرة إلى مصر”، مضيفاً أنه “إذا كانت هناك فكرة للتهجير، فلم لا ينقل الفلسطينيون إلى النقب”.
بالتزامن كشفت صحيفة “الشرق الأوسط” عن مخطط لاستغلال حرب مقبلة لطرد مئات آلاف الفلسطينيين، بعدما طرح أحد قادة حزب “الليكود” الحاكم في إسرائيل أمير فايتمان، وهو رئيس جناح “الليبراليين” في الحزب، مشروعاً يقضي باستغلال الحرب الحالية لطرد سكان غزة، ليس إلى مدينة خيام في سيناء، بل إلى قلب مصر، القاهرة وغيرها من المدن.
وحذر حكومة بنيامين نتنياهو من تفويت هذه الفرصة، “كما أضاعتها القيادات الإسرائيلية الغبية بعد حرب 1967″، وكان فايتمان أعد المشروع مع رجل الاقتصاد الإيطالي مرسيلو دي مونتيه، وصدر عن معهد “مسغاف للأمن القومي والاستراتيجية الصهيوني” برئاسة مئير بن شبات، رئيس مجلس الأمن القومي في حكومة نتنياهو.
وفي تقرير لشبكة “بي بي سي” البريطانية نشر في الـ30 من أكتوبر الماضي، نقلاً عن وثائق سرية بريطانية، اطلع عليها معد التقرير، تقول إن إسرائيل وضعت خطة سرية قبل 52 عاماً لترحيل الآلاف من فلسطينيي غزة إلى شمال سيناء، وأتى ذلك بعد احتلال الجيش الإسرائيلي غزة، إلى جانب الضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان السورية في حرب يونيو (حزيران) 1967، حين أصبح القطاع مصدر إزعاج أمني لإسرائيل، وباتت مخيمات اللاجئين المكتظة بؤراً لمقاومة الاحتلال، فانطلقت منها عمليات ضد القوات المحتلة والمتعاونين معها، وفقاً للتقرير.
فكرة ترحيل الفلسطينيين أو “ترانسفير” منذ الآباء الأوائل للصهيونية
وتقول دراسة صدرت عن “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” صيف عام 1991 بعنوان “التصور الصهيوني لـ’الترحيل‘: نظرة تاريخية عامة” للأكاديمي والمؤرخ الفلسطيني-البريطاني نور مصالحة، “يسود أوساط الليكود واليمين المتطرف ميل إلى المجاهرة بطلب ’ترحيل‘ العرب عن الأراضي المحتلة التي صممت هذه الأوساط على استيطانها وضمها إلى إسرائيل. ويذهب بعض ساسة الليكود، مثل النواب والوزراء مئير كوهين وميخائيل ديكل وأريئيل شارون إلى التأسف الشديد على ازدواجية حزب العمل وريائه، ويرثون لما ارتكب في حرب 1976 من خطأ عدم إجلاء الفلسطينيين عن الأراضي المحتلة على نحو ما طُرد سكان اللد والرملة على أيدي بن غوريون (دافيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل)، ويتسحاق رابين (سياسي إسرائيلي وجنرال عسكري سابق في الجيش الإسرائيلي ورئيس وزراء)، ويغآل آلون (لواء في جيش الدفاع الإسرائيلي ورئيس وزراء إسرائيل بالنيابة) في يونيو 1948. فبرأي هؤلاء الساسة أن حزب العمل لو كان تصرف على نحو يتسق وسياسة بن غوريون في 1948، لأمكن تحاشي ’المشكلة السكانية‘ المتمثلة في الوجود العربي”.
ووفقاً لتقرير “بي بي سي” الآنف الذكر، أنه بحسب تقديرات البريطانيين، عندما احتلت إسرائيل غزة، كان في القطاع 200 ألف لاجئ من مناطق فلسطين الأخرى، ترعاهم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” و150 ألفاً آخرين هم سكان القطاع الأصليون الفلسطينيون. ووفقاً للمؤرخ مصالحة، فإن المقترحات التي طرحت في شأن “الحل بالترحيل”، أطلقت سجالاً واسعاً في أوساط الرأي العام الإسرائيلي مع تنامي النضال الفلسطيني من أجل وضع حد للاحتلال وتحقيق الاستقلال الوطني القائم على حل الدولتين. وتشير الدراسة إلى أن فكرة “نقل” (ترانسفير) السكان الفلسطينيين، ووفقاً لرحبعام زئيفي، (جنرال الاحتياط الذي كان على رأس حزب يحتل مقعدين في الكنيست وقت نشر الدراسة)، تنص بصورة حصرية على خطة لـ”ترحيل” الفلسطينيين ترحيلاً جماعياً إلى خارج الأراضي المحتلة، وهذا المفهوم راسخ في الصهيونية إلى حد أن الأمل في تلاشيه ضئيل، فالفكرة متأصلة في النظرة الصهيونية إلى أن “أرض إسرائيل حق وراثي لليهود” وأنها ملك لليهود حصراً (لا للعرب الفلسطينيين)، وهي فكرة يتبناها معظم يهود إسرائيل وتقود طبعاً إلى الاستنتاج أن العرب “غرباء” وأن عليهم أن يقروا بيهودية أرض إسرائيل/ فلسطين وبالسيادة اليهودية الحصرية عليها، أو أن يرحلوا.
وتتابع الدراسة أن مطلب “الترحيل” هذا يرقى إلى بداية عهد المستوطنات الصهيونية في فلسطين ونشوء الصهيونية السياسية. فمنذ أيام تيودور هرتزل (الأب الروحي للدولة اليهودية)، ما زالت الهجرة اليهودية إلى فلسطين واستيطانها جارية، وتحويل أراضيها من أيدي العرب إلى أيدي اليهود حصراً وإعادة تشكيل البلد وتجريده من صفاته العربية، مع ما ترتب على ذلك من إقامة دولة صهيونية/ يهودية في نهاية المطاف، إضافة إلى أن هذه الأفكار والأعمال كلها متضافرة مع فكرة “الترحيل” في تفكير القيادة الصهيونية وممارستها.
إن فكرة إقامة أكثرية يهودية في إسرائيل (فلسطين والأراضي المجاورة لها) هي فكرة متحدة بفكرة إنشاء دولة يهودية متجانسة، وعملت القيادة الصهيونية على ترويج مذهبها في أن “الحقوق الوطنية في فلسطين تعود حصراً للشعب اليهودي ككل”، وبدأت تفكر في الحلول لما اعتبرته “المشكلة السكانية العربية”، من وجهة نظرها، فقد كان الإطار الفكري الذي يقوم عليه مبدأ نقل وترحيل السكان العرب الفلسطينيين المحليين مترابطاً ترابطاً وثيقاً بأيديولوجيا تعصب ثقافي تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع السكاني والعرقي الديني لفلسطين، أي لبلد يسكنه بصورة غالبة شعب آخر حتى عام 1948، وتحويله إلى دولة يهودية ذات ديانة واحدة.
وروّج يسرائيل زانغويل، الكاتب الأنغلو- يهودي البارز والمتحمس لفكرة الترحيل، للشعار القائل إن فلسطين “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وعن هذا كتب الرحالة اللورد ليندسي في كتابه المنشور بعنوان “رسائل عن مصر وإيدوم والأرض المقدسة” عام 1838، أن “عقم واضمحلال أرض فلسطين لم يكن بسبب لعنة أصابت الأرض، ولكن ببساطة بسبب ’عدم وجود سكانها القدامى‘”. وكان ليندسي يؤمن بأن “إرادة الله هي التي شاءت ألا يكون السكان الحاليون كثيري العدد على الإطلاق” حتى لا يعوقوا عودة “الورثة الشرعيين”.
وقال الكاتب والباحث الفلسطيني أحمد الدبش إن ليندسي كان يؤمن بأن “الأرض التي كانت خصبة من قبل تنتظر عودة أولادها المنفيين فقط، وتطبيق الصناعة التي تناسب قدراتها الزراعية حتى تنطلق مرة أخرى لتكون في حال رخاء وترف تام، وتعود كما كانت أيام النبي سليمان”، وكذلك وردت إشارة إلى فكرة “البلد الخالي” عينها على لسان حاييم وايزمن الذي صار رئيس المؤتمر الصهيوني العالمي لاحقاً في خطاب ألقاه عام 1914.
ووفقاً للمؤرخ الفلسطيني-البريطاني نور مصالحة فإن “الأعمق دلالة من ذلك كله هي طرفة قالها وايزمن لرئيس دائرة الاستيطان في الوكالة اليهودية آرثر روبين عن الطريقة التي حصل (وايزمن) عبرها على الوعد من بلفور عام 1917. فلما سأل روبين وايزمن عما لديه من أفكار بالنسبة إلى العرب الفلسطينيين، أجابه هذا الأخير ’أخبرنا البريطانيون أن ثمة بضع مئات الألوف من الزنوج، وليس لهؤلاء أية قيمة‘”. ويقول مصالحة في كتابه الذي يحمل عنوان “أربعة آلاف عام في التاريخ”، إن كلمة زنجي (Nigger) في اللغة الإنجليزية هي “شتيمة عنصرية بيضاء موجهة مباشرة إلى السود والأفارقة. وتردد مضامينها التحقيرية صدى كلمة ازدراء إنجليزية أخرى، هي فِلِستين التي استعارها البيض البريطانيون من المزاعم التوراتية وعمموها في الأحاديث اليومية”.
وتأكيداً على أن بذور فكرة “الترحيل” نبتت منذ أوائل أيام الصهيونية، لا سيما في ما يتعلق بالدافع إلى الاستيلاء على أراضي العرب، يقول مؤسس الفكر السياسي الصهيوني هرتزل في معرض تأمله الانتقال من حال “جمعية اليهود”، وهو الاسم الذي كان يطلقه على التنظيم السياسي الذي كان يعتبره الممثل المستقبلي للحركة الصهيونية، إلى “حال الدولة”، في يومياته في الـ12 من يونيو 1895، “ينبغي لنا أن نترفق في استملاك الأملاك الخاصة في الأراضي المعينة لنا. سنسعى إلى تشجيع السكان المعدمين على عبور الحدود بأن نجد لهم أعمالاً في البلاد التي يمرون بها، مع الامتناع التام عن تشغيلهم في بلدنا… يجب أن تتم عمليتي الاستملاك وإبعاد الفقراء بأقصى درجات التأني والاحتراس”.
ووفقاً لبعض المراجع طرح هرتزل صفقة مالية على السلطان العثماني عبدالحميد، معلناً أن “فلسطين هي وطننا التاريخي الذي لا يمكننا نسيانه… لو يعطينا السلطان فلسطين، نأخذ على عاتقنا إدارة مالية تركيا كاملة مقابل ذلك”. ولم يكن اقتراح هرتزل يتيماً، بل شكل نموذجاً لمقترحات صهيونية مستقبلية، تقدم بها غيره من “الآباء البناة”. وكثيراً ما صيغت تلك الأفكار في تلك المرحلة بعبارات ملطفة مخففة مثل “هجرة العرب الجماعية إلى بلاد العرب”، أو الهجرة السلمية التي سيحفزها الاستملاك الصهيوني للأراضي، وغير ذلك من الحوافز الاقتصادية. لكن كانت ثمة دعوات صريحة أيضاً إلى طرد العرب الفلسطينيين أطلقتها مجموعة من كبار الصهيونيين أمثال زانغويل الذي كان من أوائل أعوان هرتزل وأشدهم غيرة على تنظيم الحركة الصهيونية في بريطانيا. وزار فلسطين عام 1897 وعاين الواقع السكاني لفلسطين العربية. وبعد سبعة أعوام، أعلن في خطاب ألقاه في مانشستر في إنجلترا موقفه من خيار الترحيل، متحدثاً عن “الكثافة السكانية في ولاية القدس التي تبلغ ضعفي نظيرتها في الولايات المتحدة، إذ تبلغ نسبة الأنفس فيها 52 في الميل المربع، ولا يكاد اليهود يشكلون ربع هذا العدد، لذلك لا بد من أن نعد أنفسنا لإخراج القبائل (العربية) المتملكة بقوة السيف كما فعل آباؤنا، أو أن نكابد مشقة وجود سكان أجانب كثر، معظمهم من المحمديين الذين اعتادوا احتقارنا منذ أجيال”.
يذكر أنه بعد المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد عام 1897 في مدينة بازل السويسرية، قرر حاخام العاصمة النمسوية فيينا أن يستقصي أفكار هرتزل التي تكلم عنها في كتابه “دولة اليهود”، فأرسل مندوبين عنه إلى فلسطين في مهمة وصفت بأنها لـ”تقصي الحقائق”، ووجه هذان المندوبان برقية من فلسطين يقولان فيها “العروس، أي فلسطين، جميلة، لكنها متزوجة من رجل آخر”. وعن هذه البرقية قال المؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم في كتابه “الجدار الحديدي- إسرائيل والعالم العربي” إنها تضمنت “المشكلة” التي ستتعارك معها الحركة الصهيونية منذ البدء (وحتى إشعار آخر). هذه المشكلة هي بطبيعة الحال “السكان العرب الذين يعيشون على الأرض التي أرادها اليهود” لإنشاء دولتهم، والتي اصطلح على تسميتها “المشكلة العربية”.
يشار إلى أن طرح الأفكار حول حق اليهود كأمة في “أرض إسرائيل” جاء على لسان عدد من آباء مؤسسي الصهيونية، قبل ظهور التيار الصهيوني السياسي الذي نادى به هرتزل، منهم موزس هس (يهودي ألماني من مؤسسي الصهيونية العمالية) الذي كان من أوائل من طرحوا إعادة انبعاث الأمة اليهودية، وقال “ولكي نبعث الأمة اليهودية إلى الحياة ثانية يجب علينا أن نبقي فكرة البعث السياسي لأمتنا حية أولاً، وأن نوقظ هذا الأمل إذ بدأ يغط في سبات عميق ثانية. وعندما تتهيأ الظروف السياسية في الشرق لدرجة تسمح بتنظيم عودة الدول اليهودية للحياة ستكون هذه العودة بتأسيس مستعمرات في أرض أجدادنا”.