مع نشوب الحرب السودانية منذ سبعة أشهر كان يُعتقد أن تظل العاصمة الخرطوم مسرحاً ثابتاً للحرب، إما أن تنتهي بسيطرة أحد طرفي النزاع عليها أو أن تستمر على وتيرة واحدة من دون منتصر أو منهزم، لا سيما أنها المرة الأولى منذ معركة الخرطوم التاريخية الشهيرة التي حوصرت فيها المدينة بين عامي 1884 و1885، وانتهت بسقوطها على يد جيش الإمام محمد أحمد المهدي ومقتل الجنرال البريطاني تشارلز غوردون الذي عهد إليه بمهمة إخلاء العاصمة بعد زحف قوات المهدي.
وهذه الحادثة وغيرها استدعت الاستعمار الإنجليزي – المصري على السودان بقيادة اللورد هربرت كتشنر بعد هزيمته قوات الخليفة عبدالله التعايشي في العاصمة الوطنية أم درمان عام 1898 وسقوط الخرطوم وزوال الدولة المهدية.
وبعد هذه الأحداث ظلت الخرطوم مدينة محصنة لم تطلها الحرب الأهلية في جنوب السودان منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى انفصال الجنوب عام 2011، كما لم تمتد إليها الحرب في دارفور منذ 2003 وحتى الآن، ولكن عندما نشبت الحرب بين قوات الجيش و”الدعم السريع” الآتية من دارفور وما وراء الإقليم، أثرت الحرب بطبيعتها الريفية في بعض أقاليم السودان، إذ إن العقيدة القتالية لهذه القوات شبه العسكرية هي عقيدة هجومية تتحسب لأي انتصار قد تحققه القوات المسلحة التي ظلت متخندقة لفترة طويلة في مقارها منتهجة العقيدة الدفاعية.
ومن ضمن تكتيكات الهجوم التي انتهجتها “الدعم السريع” كانت العمليات التي تبدو في ظاهرها مفاجئة في مناطق بعيدة من العاصمة مثلما حدث بصورة واسعة في دارفور، وتمدد القوات أخيراً إلى منطقة جنوب السودان التي يمثل جزءاً منها إقليم غرب كردفان الذي ينتهي جنوباً أيضاً في منطقة أبيي، كما يشمل الجنوب أيضاً منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق.
وعبر هذه المناطق فر كثيرون من الحرب إلى دولة “جنوب السودان” وبعضهم استقر عند النقاط الحدودية بين البلدين، ومنهم لاجئون عائدون لبلادهم التي فروا منها إبان الحرب الأهلية، ولكن عودتهم الأخيرة هذه مشحونة بالمعاناة إذ ينتظرون مع لاجئين من الحرب في البلدين لتقدم لهم المنظمات الإنسانية المساعدات، لأنهم يشكلون ضغطاً على الموارد المحدودة لبلد يتعافى من الحرب الأهلية، كما يهددهم تمدد الحرب إلى هذه المنطقة من قلبي الجنوب والشمال.
نقاط متوترة
وعلى طول الحدود المتداخلة بين دولتي السودان و”جنوب السودان” تبدو المنطقة متأثرة بأكثر أعمال العنف استعصاء على الحل في أفريقيا، إذ أثبتت حرب الجنوب ثم حرب دارفور ثم الحرب الحالية فشل الحكومات في توفير المستوى الأساس من الحكم.
وهناك خلافات ذات طبيعة سياسية وعسكرية وتداخل قبلي وإثني عميق، يمثلها إقليم جنوب السودان الجديد ويزيد من خطورتها محاولات نقل الحرب الحالية إلى نقاط متوترة عدة.
النقطة الأولى في جنوب دارفور حيث تتنازع قبائل دينكا ملوال الجنوبية الممتدة من شمال بحر الغزال في دولة جنوب السودان مع قبيلة الرزيقات العربية في جنوب دارفور، وتعبر عنها بؤر مشتعلة في مناطق كفياكنجي وحفرة النحاس.
والنقطة الثانية فهي منطقة جبال النوبة في ولاية جنوب كردفان وتمتد إلى جبال الأنقسنا جنوب ولاية النيل الأزرق والتي تذخر أيضاً بالتداخل الإثني بين الشمال والجنوب، كما أنها ارتبطت بجنوب السودان إبان الحرب الأهلية بتنظيم سياسي وعسكري من أبناء المنطقة الذي كانوا ينتمون للحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، وظلوا يطالبون بالحكم الذاتي لمنطقتهم أسوة بدولة الجنوب.
أما النقطة الثالثة فهي منطقة أبيي جنوب السودان التي تقتسم أراضيها قبيلتا المسيرية الشمالية من أصول عربية، ودينكا نقوك الجنوبية من أصول أفريقية.
وتزيد أهمية أبيي بأنها منطقة غنية بالنفط، كما أن التوترات بين القبيلتين المتداخلتين تاريخية بدأت بالنزاع حول المراعي زاد من شدتها اكتشاف النفط في المنطقة.
وإبان التوقيع على “اتفاق نيفاشا” حصلت المنطقة على بروتوكول وقعت عليه حكومة السودان و”الحركة الشعبية لتحرير السودان” يقضي بأن تمثل أبيي جسراً بين الشمال والجنوب كمنطقة تنتمي إليها زعامات دينكا نقوك التسع التي نزحت إلى كردفان عام 1905، ومنحت “وضعية إدارية خاصة”، على أن يجري سكانها اقتراعاً خاصاً بها مع استفتاء “جنوب السودان”، ولكن أُجل الاستفتاء واحتفظت بوضعها الخاص.
وقبل اندلاع العنف في مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور تردد أن قوات من “الدعم السريع” كانت متمركزة في منطقة براو في دولة أفريقيا الوسطى عبرت المنطقة للسيطرة على منطقة أم دافوق الحدودية في جنوب دارفور بعد انسحاب الجيش منها لأسباب عسكرية.
وتزامن ذلك مع تحركات أخرى لـ “الدعم السريع” في مناطق عدة في المثلث الحدودي بين السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى، وأخرى متاخمة للشريط الحدودي مع دولة جنوب السودان.
انعكاسات مؤثرة
وفي ما قبل كان يُخشى من أن تمتد النزاعات حول أبيي إلى دارفور وكردفان، ولكن الآن تأثرت المنطقة بحرب بعيدة أتتها من الخرطوم، ومع تطورات الحرب وتوارد الأنباء عن استيلاء قوات “الدعم السريع” على مطار وحقل بليلة النفطي في ولاية غرب كردفان، ومن قبل ذلك إعلان زعيم “الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال” عبدالعزيز الحلو انحيازه لـ “الدعم السريع” يبدو أن المواجهة العسكرية بين القوات المسلحة و”الدعم السريع” في المنطقة باتت وشيكة.
وشهدت الأعوام الثلاثة الأخيرة دخول الحكومة الانتقالية في مفاوضات واسعة مع الحلو الذي تمتلك حركته نفوذاً سياسياً وعسكرياً في منطقة جبال النوبة، لكنه رفض التوقيع على “اتفاق جوبا للسلام” عام 2020 الذي نص على منح منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان (جبال النوبة) حكماً ذاتياً، وبرفض الحلو لم يُتوصل إلى صيغة سلام نهائية.
وإذا اتسعت رقعة تمدد الحرب في هذه المنطقة فستكون لها انعكاسات مؤثرة في التركيبة القبلية غير المتوازنة على الحدود مع دولة “جنوب السودان”، كما ستعطل الحوار بين البلدين الخاص بالوضع في أبيي وقضايا الحدود والنفط.
وربما تذهب الحرب إلى أبعد من ذلك، ففضلاً عن الاستقطاب الإثني والقبلي فستتجلى عن استقطاب مناطقي يفسح المجال لأن يعزز كل طرف مناطق سيطرته، وبمرور الوقت ستصبح السلطة بوضع اليد على بعض المناطق واقعاً يفرض على المجتمع الإقليمي والدولي الذي يضطر للتعامل معه درءاً لمزيد من الحروب، وبدعوى الحفاظ على الدولة من دون تقسيم، بينما يتمسك كل طرف بالحصول على ضمانات أكبر للمنطقة التي يسيطر عليها.
وقد تتزايد المحاصصات السياسية من خلال مفاوضات مستمرة مثلما يحدث دائماً في مناطق النزاعات، خصوصاً مع تاريخ فشل الحكومات السودانية المتعاقبة في الحفاظ على أي اتفاق للسلام يصون مستقبل السودان، لأن ذلك يتوقف على تغيير حقيقي في موقف السلطة الحاكمة والحركات المسلحة.
امتداد الصراع
ولا يبدو أن بوسع الدول الأفريقية التي استعان بها قادة “الدعم السريع” اتخاذ أي قرارات حاسمة إذا تمددت الحرب إلى جوارها، وبالنسبة إلى جوبا فإن مجاورتها لإقليم جنوب السودان يجعلها الأكثر تأهيلاً لهذه الحرب، وفي الوقت ذاته فإن علاقة سلفاكير ميارديت الإيجابية مع قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان وقائد “الدعم السريع” الفريق محمد حمدان دقلو قد تبطئ من إمكان لعب دور أكثر إيجابية باتجاه إيقاف الحرب في الوقت الحالي.
ولهذا اعتمد على مبادرة للوساطة ضمن مشاركة إقليمية ضعيفة، في وقت يرعى السودان اتفاق السلام الموقع بين الحزب الحاكم في جوبا والمعارضة المتمردة على سلفاكير، ولا يبدو أن السودان سيفي بموقفه الضامن لاتفاق السلام هناك في ظل حربه الخاصة.
واحتج السودان على استضافة دولة “جنوب السودان” مستشار قائد “الدعم السريع” يوسف عزت في مايو (أيار) الماضي، حيث استقبله الرئيس سلفاكير ونظم مؤتمراً صحافياً في العاصمة جوبا ضمن جولة لبعض الدول الأفريقية التقى خلالها برؤسائها ورئيس “مفوضية الاتحاد الأفريقي” موسى فكي في أديس أبابا.
وربما يتغير موقف جوبا من شبه الحياد بامتداد تأثيرات الصراع إلى جنوب السودان، إذ إنه يحمل كثيراً من التأثيرات السياسية والأمنية والاقتصادية والإنسانية على جوبا، ومعضلة موقف جوبا مردها أنها لا تزال تحت “حال الطوارئ الوطنية” التي أعلنتها الولايات المتحدة في عهد إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما في أبريل (نيسان) 2014، بينما جددتها إدارة الرئيس جو بايدن في أبريل الماضي.
وبررت واشنطن ذلك بأن الوضع والأنشطة في جنوب السودان لا تزال تهدد السلم والأمن والاستقرار داخل الدولة والمنطقة المحيطة بها، لانتشار العنف والفظائع وانتهاكات حقوق الإنسان وتجنيد الأطفال والهجوم على قوات حفظ السلام وعرقلة العمليات الإنسانية.
وتطالب جوبا برفع قضية حظر الأسلحة، في معرض احتجاجها على تجديد المجتمع الدولي العقوبات المفروضة عليها، وفي الوقت ذاته تمسكت بأنه حتى لو لم يكن لديها أسلحة لنشر قواتها لحفظ الأمن فستظل الأسلحة موجودة، ولن تسهم العقوبات في نزع السلاح بل يمكن أن تتسبب في انتشاره بصورة أخرى عبر التجارة غير المشروعة وانتشار الميليشيات المسلحة.
دعم الحرب
وعلى رغم أن دولة “جنوب السودان” نشطت في وساطتها بين الفرقاء السياسيين من المكونين المدني والعسكري خلال الفترة الانتقالية ثم واصلت نشاطها للوساطة بين الجيش و”الدعم السريع”، إلا أن خشيتها من التأثير في حدودها الملتهبة بالأساس قد يدفعها إلى الدخول في معترك الحرب على تخومها بدعوى الدفاع عن أراضيها.
وهناك عوامل عدة قد تساعد جوبا في الإسهام في حرب الجنوب الجديد، وأولها أن أوغندا لن تتردد في دعم دولة “جنوب السودان” إذا اندلعت حرب بين الجيش و”الدعم السريع” على الحدود بينها وبين السودان، وقد أعلنت ذلك منذ استقلال الجنوب، ويعود ذلك لأن الأطراف جميعها لا تزال تتمسك بالخصومة التاريخية، وهي أن نظام عمر البشير كان يدعم “جيش الرب للمقاومة” بزعامة جوزيف كوني المعارض لنظام الرئيس الأوغندي يوري موسفيني، بينما كان الأخير يدعم “الحركة الشعبية لتحرير السودان” منذ أن كان زعيمها جون قرنق دي مبيور، وانتقلت بعد حكم الحركة لدولة الجنوب إلى نائبه سلفاكير ميارديت.
وينشط “جيش الرب” في منطقة غابات تربط بين جمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
وثانياً أن الحرب في مناطق النفط في السودان ستعيد الاهتمام العالمي بالمنطقة ودولة الجنوب بعد انحساره نتيجة عدم التوافق الداخلي، إذ ظلت الدولة المنفصلة مسرحاً للعنف القبلي والصراع السياسي بين الحكومة بقيادة سلفاكير ومعارضيه من حلفائه ونوابه السابقين مثل رياك مشار، وظلت جوبا تطالب بإعادة الاهتمام الدولي بها وبذل المساعدات الإنسانية نتيجة لظروف النزاع الداخلي وشبح المجاعة الذي يلوح في أفق الدولة. وستكون هذه فرصة لدعم سلفاكير مادياً ومساندته للعمل على استقرار الدولة، وتكون فرصة لإسكات الأصوات المطالبة بالانتخابات التي أجلها مرات عدة.
ومنذ انفصالها سيطرت دولة “جنوب السودان” بقواتها على حقول نفطية عدة متنازع عليها بين البلدين منها حقل هجليج الذي تعده منطقة تابعة لها، ولم تنسحب قواتها إلا بعد أن نشرت الأمم المتحدة قوات محايدة هناك.
تدخل مباشر
وفي عام 2009 قضت محكمة التحكيم الدولية في لاهاي بتقليص حدود منطقة أبيي، وقررت إعادة ترسيم الحدود الشمالية والشرقية للمنطقة، وركزت على إقصاء الإدارة الأهلية ولكنها تجاهلت قضية التمازج الثقافي والاجتماعي والنشاط الاقتصادي.
ومن المزمع أن يتخذ مجلس الأمن الدولي في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري قراراً في شأن تمديد مهمة قوة الأمم المتحدة الأمنية الموقتة لأبيي (يونسفا) التي أنشئت عام 2011 بعد موافقته، وتمثل إحدى قوات الأمم المتحدة في السودان إضافة إلى قوات في دارفور وغيرها.
ويتوقف استئناف إنتاج النفط في إقليم جنوب السودان على قضية منطقة أبيي والحدود التي تم الاتفاق حولها وفقاً لترتيبات حفظ السلام والاستقرار على طول الحدود المشتركة بإقامة منطقة عازلة تشرف عليها قوات الأمم المتحدة، وتنسحب قوات دولتي السودان وجنوب السودان إلى مسافة 10 كيلومترات من الحدود المشتركة.
ووفقاً لهذه التوترات والنقاط الساخنة في أبيي وغيرها فإنها لن تجعل منطقة جنوب السودان مساحة للتسوية السلمية، إذا كان شبح الحرب مخيماً على البلد بأسرها، بينما الجوار منغمس في حربه الداخلية. وإن لم تكن الحرب بعيدة بما يكفي من هذه المنطقة فإن التدخل المباشر من قبل المجتمع الدولي أو الأمم المتحدة هو الأقرب في هذه الحال، لا سيما وأن قواتها الخاصة موجودة أصلاً في منطقة الجنوب العازلة بين السودان ودولة “جنوب السودان”.