لم تقدم قمة الإيغاد التي عقدت في جيبوتي أخيراً في شأن الأزمة السودانية جديداً حول مسألة وقف الحرب، كما لم تستطع أن تسفر عن اتفاق لوقف إطلاق النار حتى ولو موقت، على الشاكلة التي جرت من منبر جدة أكثر من مرة.
كما أصدرت الخارجية السودانية بياناً في أعقاب القمة ترفض فيه مخرجاتها المعلنة، وهو ما يعني أن الإعلان الضعيف الذي أشارت فيه “الإيغاد” إلى توافق طرفي الصراع على لقاء مباشر اتضح أنه بلا مضمون واقعي عن سير المباحثات وكواليس القمة.
وكذلك مواقف الأطراف المتصارعة، بعدما أعلن الفريق عبدالفتاح البرهان قائد الجيش، وحميدتي قائد قوات “الدعم السريع”، في أعقاب انتهاء القمة مباشرة شروطاً مسبقة لعقد الاجتماع المباشر الذي قالت الإيغاد إنه جرى توافقاً بشأنه.
وعلى رغم الحضور الإقليمي والدولي الكبير، المتضمن المبعوث الأميركي للقرن الإفريقي مايك هامر، الذي حظيت به قمة الإيغاد تعبيراً ربما عن توافر إرادة دولية لحل الأزمة السودانية، واتجاه إلى الاهتمام بوقف الحرب السودانية، فإن مخرجات القمة جاء جديدها محدوداً إن لم يكن معدوماً، وربما بيان الخارجية السودانية اللاحق للقمة والرافض مخرجاتها يعد أحد أهم مؤشرات عدم القدرة على اختراق الوضع المأزوم في السودان.
كل هذه المعطيات تطرح أسئلة مطروقة ومشروعة في آن عن مدى قدرة منظمة الإيغاد أن تكون آلية لحل الأزمة السودانية المتفاقمة، وهل تلعب دوراً منوطاً بها، بوصفها منصة إقليمية أفريقية مدعومة دولياً، وتحظى برضا أميركي خاص على قاعدة الحلول الأفريقية لمشكلات القارة السمراء، وذلك بهدف التوصل إلى حال أضعف الإيمان، وهي وقف إطلاق النار في السودان.
أفخاخ وإشكالات
في البداية، لا بد من القول إنه باستثناء تأييد التنسيق بين منبري الإيغاد وجدة، والتوصية بذلك كأحد مخرجات قمة جيبوتي الأخيرة، فإن هذه القمة قدمت من الإشكالات والأفخاخ المؤثرة في الحالة الصراعية في السودان أكثر مما قدمت من حلول أو إسهام في تفكيك التعقيد والتركيب الذي هو السمة الأساسية للأزمة السودانية، وربما يكون جديدها فقط هو إعلان مشكوك في مدى صدقيته في شأن توافر إرادة سياسية لعقد لقاء على مستوى القمة بين الطرفين المتصارعين.
وأعلن البيان اعتماده على خريطة طريق سبق إعلانها من جانب الاتحاد الأفريقي في وقت سابق، لوقف الحرب في السودان، وهي الخريطة المتضمنة ست خطوات انحازت إليها الإيغاد في بيانها الختامي للمحادثات، تشمل وقف دائم لإطلاق النار، وتحويل الخرطوم إلى عاصمة منزوعة السلاح، وإخراج قوات الطرفين إلى مراكز تجميع تبعد 50 كيلومتراً عن الخرطوم، علاوة على نشر قوات أفريقية (إيساف) لحراسة المؤسسات الاستراتيجية في العاصمة.
قوات أفريقية وتعقيد الصراع
أما المسألة الإضافية المقدمة من جانب الإيغاد فهي توسيع الآلية المشتركة، بضم أطراف إقليمية ودولية، لتكون بديلاً عن آلية إيغاد الرباعية المخصصة لحل الأزمة، كما ناقشت تعيين مبعوث خاص لمنظمة إيغاد للتنسيق مع المبعوث الأفريقي لقيادة الآلية المقترحة.
وفي ما يتعلق بمسألة وجود قوات من إيساف (قوات تجمع شرق أفريقيا) فهو يعني أولاً أن دولاً للجوار السوداني سيكون لها وجود عسكري في الخرطوم، وهو أمر طبقاً للخبرات التاريخية بمنطقة القرن الأفريقي، يسهم في تعقيد المشكلات والصراعات، خصوصاً ذات البعد العسكري، وليس حلها، فمثلاً في الصومال أسهم وجود قوات إثيوبية في تعقيد الصراع لا حله، بل إنه أسهم بشكل فعال في تضخم تنظيم “شباب المجاهدين” الصومالي التابع للقاعدة، إلى درجة أصبح ينفذ عمليات إرهابية في كل من إثيوبيا والصومال.
وربما يجوز التساؤل ثانياً ما القوة التي تستطيع أن تجعل “الدعم السريع” ينسحب من مناطق ارتكازه؟ وهي المناطق التي رفعت من وزنه العسكري والسياسي في المعادلة السودانية، وترتب عليها نفوذ لقادة ميدانيين داخله، ربما تكون قيادة “الدعم السريع” لا تسيطر بالكلية على قرارتهم، هذا إذا افترضنا جدلاً أن الجيش السوداني سيقبل بعملية الانسحاب إلى خارج العاصمة بـ50 كيلومتراً.
أما على صعيد مقترح الإيغاد بتوسيع الآلية الدولية المنخرطة في حل الأزمة السودانية، وعدم الاكتفاء بالآلية الرباعية المتضمنة: واشنطن وبريطانيا والسعودية والإمارات، فهذا سيكون البوابة التي ستضيف تعقيدات جديدة للأزمة السودانية، ذلك أن الآلية المقترحة قد تسهم في إضعاف منبر جدة، وهو المنبر الذي لم ينجح في وقف الحرب، لكنه في الأقل المنبر الوحيد الذي حقق وقفاً موقتاً لإطلاق النار، كما أنه المنبر العاكس للعواصم المؤثرة في مسارات الأزمة.
ماذا يعني توسيع الآلية الدولية؟
وبطبيعة الحال، توسيع الآلية الدولية يعني ببساطة دخول مصالح دولية إضافية على خط الأزمة السودانية، وهو لا يعني تدويلاً غير لازم، لكنه أيضاً تعقيد لا يحتاج إليه أحد، ولعل المشهد الليبي شاهداً على ما نذهب إليه في الحالة السودانية، وهو المشهد الذي ما زالت الأزمة فيه تراوح مكانها، لكن بتكاليف أقل على الصعيد الإنساني من التكاليف السودانية.
هذه الأفخاخ التي تمسكت بها قمة جيبوتي في اجتماع منظمة الإيغاد الأخير من باب الاستسهال ربما، أو من باب أن الفاعلين الدوليين أيضاً باتوا يستقربون صيغاً متداولة ومطروقة في كل أزمة إقليمية من دون دراسة لازمة وضرورية لتعقيدات الأزمة السودانية وجذورها التي تمتد لتعقيدات مرتبطة بالانقسام العرقي السوداني والتناقضات والتباينات الثقافية، وربما أيضاً تكوين ومدخلات الذهنية السودانية المتفردة نسبياً في تقديري عن جوارها الإقليمي، وكلها أمور تحتاج إلى جانب الجهد السياسي جهداً بحثياً وأكاديمياً من جانب خبراء مستقلين غير مرتبطين بالإدارات الرسمية في العواصم المهتمة بالأزمة السودانية.
في هذا السياق يكون ما يجري منذ انتهاء القمة ورفض مخرجاتها متوقعاً إلى درجة كبيرة، ذلك أن طرفي الصراع الفريق عبدالفتاح البرهان قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، وكذلك قائد قوات “الدعم السريع” أصدرا ما يمكن أن يكون شروطاً مسبقة للقائهما المزعوم من جانب “الإيغاد”، فمن ناحية يريد حميدتي أن يجرد قائد الجيش من شرعيته السياسية، باعتبارها منقوصة لدى الأول، وقائد الجيش والقوى السياسية التي تدعمه لا تريد أن تعترف بقوات “الدعم السريع” أصلاً، وتنتهج استراتيجية تعتمد على الضغط على القوة الإقليمية الداعمة له، ومواصلة الحرب كأسلوب تراه وحيداً، لتحقيق أغراضها السياسية، والطرفان لا ينتبهان في هذه المسألة إلى حجم الثمن المدفوع لأهدافهما.
من ناحية يجري تدمير منظم لمقدرات الدولة السودانية على صعيد البنية التحتية، وهي المقدرات الضعيفة أصلاً، ومن ناحية أخرى فإن الشعب السوداني بأكمله يدفع أثماناً غير مسبوقة، سواء في حجم الضحايا من المدنيين، الذي لا نعرف له تقديراً واقعياً، أو في تضخم عدد اللاجئين والنازحين من مناطق الصراع العسكري إلى مناطق أكثر آمناً، سواء داخل السودان أو خارجها، ناهيك بتفشي المجاعة والأمراض، وهو ما يؤثر في أجيال سودانية مقبلة، كما يؤثر في قطاعات واسعة من الشعب السوداني حال من “التروما” أو الصدمة بعد أن فقدو بيوتهم، وباتوا أشتاتاً في المهاجر المختلفة.
في الأخير، قد تكون المعطيات المذكورة عالية لا ترجح نجاحاً للإيغاد في حل الأزمة السودانية لا حالياً ولا في المستقبل المنظور، وعليه يكون مطلوباً ربما اتباع أساليب جديدة لوقف الحرب، نظراً إلى ارتفاع تكاليفها، وهنا تساؤل: لماذا لا تعتمد واشنطن الحل الذي اعتمدته في حل أزمة التيغراي وهي فاعلية لوسيط شخص واحد ممثل للإدارة يلعب دوراً مباشراً بين البرهان وحميدتي على النمط الذي جرى به وقف حرب التيغراي الإثيوبية؟