تجددت المواجهات العنيفة بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” لليوم الثالث على التوالي عند المدخل الشمالي لمدينة سنار (جنوب شرقي السودان)، في وقت تبادل الطرفان قصفاً مدفعياً على عدد من المناطق في الخرطوم يعد الأعنف من نوعه، مما أحدث انفجارات قوية بوسط العاصمة وتصاعداً كثيفاً لأعمدة الدخان.
وبحسب شهود، فإن المعارك بين الطرفين تركزت في مناطق سكر سنار وود الحداد وود المكي التي تبعد 15 كيلومتراً عن مركز المدينة من ناحيتها الغربية، حيث نفذ الجيش غارات جوية على مواقع تجمعات “الدعم السريع” عند تخوم ولاية سنار، فضلاً عن القصف المدفعي المكثف من قبل قواته المتحصنة داخل المدينة، بينما ردت الأخيرة بمضادات الصواريخ الأرضية ومدفعيتها الثقيلة في محاولة منها للتوغل داخل عاصمة الولاية.
وتسببت هذه المعارك في تزايد موجات النزوح من مدينة سنار التي أصبحت شبه خالية من السكان، وكذلك من القرى المجاورة لها باتجاه ولايات شرق البلاد (القضارف وكسلا)، إذ قدرت الأعداد بأكثر من 60 ألف نازح، في حين فرضت “الدعم السريع” حصاراً على أحياء عدة في ود مدني وما حولها من قرى، حيث منعت سكانها من مغادرتها إلى أماكن أكثر أماناً، إضافة إلى قطع الطرق القومية، مما دفع المركز الحقوقي الموحد لمناشدة المنظمات الدولية الضغط على هذه القوات من أجل توفير ممرات آمنة من دون قيد أو شرط والسماح لمئات آلاف النساء والأطفال وكبار السن العالقين في تلك المناطق بحرية التحرك نحو الوجهات التي يريدونها. واعتبر المركز تحديد إقامة المدنيين ومنعهم من مغادرة مكان النزاع المسلح صورة من صور جرائم الحرب باستخدامهم دروعاً بشرية.
استمرار النهب
كما استمرت عمليات النهب والسلب في معظم قرى ومدن ولاية الجزيرة، وبحسب لجان مقاومة مدينة الحصاحيصا التي تقع على بعد 50 كيلومتراً شمال ود مدني، فإن معظم سيارات المواطنين ومقتنياتهم من الأموال والذهب نهبت بواسطة “الدعم السريع”.
وأفادت لجان مقاومة أربجي بولاية الجزيرة بأن قوة متفلتة من “الدعم السريع” اجتاحت المنطقة واعتدت بالضرب على المواطنين. وأوضحت، في بيان، أن “الأوضاع تطورت سلباً بعد ساعات قليلة من الهدوء الحذر الذي أعقب زيارة قيادة الدعم السريع أربجي وتعهدها باسترداد المسروقات التي نهبتها قواتها من مواطني المنطقة”.
وأشار البيان إلى أن قوة متفلتة من “الدعم السريع” جاءت أريجي بعدها وشنت حملة انتقامية واسعة شملت الاعتقال والتعذيب والتحقيق مع المواطنين لمعرفة الجهة التي تواصلت مع أبوعاقلة كيكل الذي عينه حميدتي قائداً للفرقة الأولى مشاة ولجنة الطوارئ لحسم التفلتات”، مؤكداً استمرار عمليات النهب الواسعة التي تقوم بها هذه القوات ضد ممتلكات المواطنين بالمنطقة.
معاقبة المتفلتين
في المقابل، أكدت قوات “الدعم السريع” تنفيذها عقوبة مشددة في حق المتفلتين الذين يعتدون على المواطنين بولاية الجزيرة والتعامل بالرصاص الحي مع رافضي الاستجابة لأوامر لجنة مكافحة الظواهر السلبية بالولاية.
وأشار رئيس المجلس الاستشاري لـ”الدعم السريع” حافظ عبدالنبي، في بيان، إلى أن نائب قائد هذه القوات عبدالرحيم دقلو أصدر قرارات تقضي باستخدام الرصاص الحي لحسم من وصفهم بالمتفلتين، لافتاً إلى توفير أكثر من 100 سيارة قتالية لمكافحة الظواهر السلبية واستعادة المنظومة الأمنية بشكل متكامل في مناطق ومدن ولاية الجزيرة تدريجاً.
وبين أنه تمت استعادت 10 شاحنات كبيرة ونحو 100 سيارة تم نهبها من قرية فداسي بولاية الجزيرة وتسليمها لأصحابها، منوهاً إلى سيطرة “الدعم السريع” بشكل كامل على مخازن السلع الاستراتيجية المملوكة لقادة النظام السابق بمدينة ود مدني، إلى جانب تأمين مخازن السلع والمواد الغذائية بأحياء مارنجان وبركات بمدينة ود مدني.
ونوه البيان إلى إلقاء القبض على نحو 400 من المتفلتين واللصوص وكتائب الظل التابعة للنظام السابق وإيداعهم السجون، فضلاً عن توقيف نحو 100 من قوات الإسناد التابعين لـ”الدعم السريع” اعتدوا على المواطنين ونهبوا ممتلكاتهم وأظهروا مقاومة مسلحة عند التعامل معهم. وأكد أن قيادات “الدعم السريع” ستظهر أقصى درجات الحسم والفعالية والقسوة الشديدة غير المسبوقة في التعامل مع الذين يستغلون أوضاع الحرب غير المواتية في مدينة ود مدني وقرى ولاية الجزيرة لسلبها ونهبها.
إجلاء مجهولي السند
في الأثناء، بدأت الحكومة السودانية إجلاء المئات من الأطفال والفتيات مجهولي السند ومسنين وذوي حاجات خاصة من ود مدني، إلى ولايتي البحر الأحمر وكسلا شرقي البلاد.
وكان الصليب الأحمر أجلى، في يونيو (حزيران)، 300 من الأطفال مجهولي الأبوين و70 آخرين من مقدمي الرعاية من الخرطوم إلى ولاية الجزيرة بعد احتدام القتال في العاصمة وضعف الخدمات، مما أدى إلى وفاة عدد كبير منهم جوعاً، لكن انتقال الصراع لولاية الجزيرة تسبب في بقاء أعداد كبيرة من هاتين الشريحتين عالقة في مرمى النيران ليطلق ناشطون أصوات استغاثة تطالب بسرعة إجلائهم من مواقع الاشتباكات.
ووفقاً للمدير العام لوزارة التنمية الاجتماعية بولاية الخرطوم صديق فريني تمت، بالتنسيق بين ولايتي الخرطوم وكسلا و”اليونيسف”، عملية نقل 334 من الأطفال فاقدي السند إلى بورتسودان عاصمة البحر الأحمر، وإجلاء 11 مسناً و18 من أصحاب الإعاقة وذوي الحاجات الخاصة إلى ولاية كسلا.
مواجهات الخرطوم
وفي الخرطوم، قصفت قوات “الدعم السريع” بمدفعيتها الثقيلة محيط القيادة العامة للجيش، وسط العاصمة، من منصاتها جنوب وشرق الخرطوم، في حين صوَّب الجيش مدفعيته باتجاه منطقة تمركز “الدعم السريع” في نواحي أرض المعسكرات والمدينة الرياضية، وأحياء بري والمنشية جنوب وشرق العاصمة، وسمع دوي انفجارات عنيفة وتصاعد كثيف لأعمدة الدخان.
وأشار شهود إلى أن “الدعم السريع” شنت هجوماً بالمدفعية هو الأعنف من نوعه على مقر سلاح المهندسين جنوب المدينة وسلاح الإشارة في بحري ووادي سيدنا شمال أم درمان، كما دارت معارك بين الطرفين قبالة كبري الحلفايا مما دفع المواطنين للاعتكاف داخل منازلهم، فيما هاجم الجيش مواقع “الدعم السريع” في منطقة أم درمان القديمة.
وتشكل منطقة سلاح المهندسين إلى جانب السلاح الطبي وأكاديمية نميري المجاورة موقع تمركز للجيش السوداني، ولم تتمكن قوات “الدعم السريع” من اختراقه منذ بدء القتال في منتصف أبريل (نيسان)، وكان يتحصن بداخلها مساعد قائد الجيش الفريق أول ياسر العطا، المسؤول عن العمليات العسكرية في مدينة أم درمان، قبل أن ينتقل إلى منطقة وادي سيدنا العسكرية شمال المدينة.
خفض الروح المعنوية
وحول ما يجري من تطورات ميدانية بين طرفي الصراع، قال القيادي في قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) اللواء معاش كمال إسماعيل أحمد، إنه من الصعب أن يحسم أي طرف سواء الجيش السوداني أو “الدعم السريع” الحرب الدائرة بينهما في البلاد. وأكد أن استمرار الوضع العسكري المتأزم بشدة سيؤدي إلى تدخل أطراف أخرى مما يعني إطالة أمد الحرب واتجاهها إلى حرب أهلية شاملة. ورأى أحمد أن الجلوس إلى طاولة المفاوضات أمر ضروري ومستعجل في ظل توسع هذه الحرب وتمددها بشكل متسارع، “فهو الحل المناسب والأجدى لإنهاء هذا الصراع الذي تسبب في دمار البلد وتشريد أهله وسلب ممتلكاتهم”. وعزا تراجع الجيش بعد انسحابه من مدن عدة آخرها ود مدني إلى خفض الروح المعنوية وسط قواته ونقص الإمداد والمعلومات التي تعد ركيزة أساسية في المعارك.
وبين القيادي في قوى الحرية والتغيير أن مستقبل السودان السياسي ينبني على وقف هذه الحرب “والإيمان بأن الدور السياسي هو السبيل الوحيد لاستقرار البلاد، ومن ثم وضع برنامج ما بعد الحرب يشمل الانتقال لتأسيس الدولة والشروع في تكوين مؤسساتها وإبعاد طرفي النزاع من أي دور سياسي”.
رسالتان للبرهان و”حميدتي”
ودعا رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية في السودان رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك كلاً من القائد العام للجيش عبدالفتاح البرهان وقائد قوات “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو لاجتماع عاجل يناقش وقف الحرب المستمرة في بلاده. وقال حمدوك في منشور على منصة “إكس”، إنه “نيابة عن تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، وجهت رسالتين خطيتين إلى الفريق أول عبدالفتاح البرهان قائد القوات المسلحة والفريق أول محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع أطلب منهما اللقاء عاجلاً بغرض التشاور حول السبل الكفيلة بوقف الحرب التي قتلت وشردت السودانيين ودمرت البنى التحتية ويهدد استمرارها بقاء الوطن”.
جبهة عريضة
من جهته اعتبر نائب رئيس مجلس السيادة السوداني مالك عقار تمدد قوات “الدعم السريع” إلى ولاية الجزيرة أمراً مزعجاً ومقلقاً تسبب في إحباط الشعب السوداني، “لكنه لا يعني انتصار هذه القوات على السودانيين والجيش السوداني”. وقال في خطاب وجهه للمواطنين “أطمئنكم أن قادتنا العسكريين على دراية بمخاوفكم، وكل عثرة في الحرب هي تجربة لتجويد ما بعدها، وكلي ثقة بأن القيادة العسكرية تدرس ذلك وتتهيأ لخوض معركة النصر”. ودعا عقار القوى السياسية والمدنية الوطنية إلى الاتحاد وتكوين جبهة عريضة، وعدم ترك الساحة للتنظيمات التي قال إنها “تدعم التمرد تحت تسميات عديدة، وتسعى إلى اختطاف الصوت المدني، وتسويق الأوهام للشعب السوداني والمجتمع الإقليمي والعالمي”. وأشار إلى أن الأحزاب السياسية السودانية نتيجة ضعفها، عبر التاريخ، لجأت إلى المؤسسة العسكرية كجسر للوصول لسدة الحكم، وبذلك أقحمتها في السياسة، بدلاً من قيامها بمهامها الدستورية، وظلت رغبة السودانيين بخروج المؤسسة العسكرية من السياسة مطلباً مستمراً.
أضاف “المدان ليست القوات المسلحة بل الأحزاب التي استغلت الجيش السوداني”، وخاطب عقار الدول التي تساند “الدعم السريع” قائلاً “نعلم أن لكم مصالح، سواء اقتصادية أو أخرى، دفعتكم لمساندة هذه القوات بالمال والسلاح والغطاء السياسي والدبلوماسي”، منوهاً بأن تلك الدول، على رغم إنفاقها السخي على “الدعم السريع”، فلن تحقق سيطرتها على السودان وستواجه مقاومة حتمية.