ما إن حل الظلام حتى تجمع فؤاد وعدد آخر من النازحين في ساحة المدرسة التي تحولت إلى مركز إيواء، وقرروا أن يسهروا الليلة كما يفعلون كل يوم، لكن هذه المرة اتفقوا على ألا يغادروا إلى غرف الفصول الدراسية إذا اشتد القصف الإسرائيلي على مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة.
بين خيام النازحين التي تنتشر في الباحة، وجد الشباب مكاناً يجلسون فيه، ووزعوا على بعضهم المهام، إذ طلب من فؤاد أن يجلب القليل من الحطب، ومن شاب آخر أن يحضر إبريق الشاي والقليل من السكر إذا وجد، ومن الثالث بضع حبات من الطماطم والفلفل وعدد من أرغفة الخبز حتى وإن كانت يابسة.
تفرق الشباب وبعد دقائق عادوا من جديد، كل واحد منهم أتم مهمته على أكمل وجه، وجلسوا ليسهروا ساعات المساء التي تبدأ عند الخامسة وتنتهي مع حلول الساعة الثامنة. يقول علاء “لا نستطيع أن نبدأ سهرتنا في وقت متأخر، على رغم أننا ننام عند الثانية بعد منتصف الليل، لكن بسبب الغارات الجوية وتطاير الشظايا في كل مكان نخاف أن يصاب أحدنا، أو ألا تفرق الطائرات بين المدنيين والمسلحين”.
علاقات اجتماعية جديدة
على “كانون” حديدي صغير أشعل علاء النار في الحطب، وأخذ الشباب يمدون أيديهم أمام اللهب لكسب القليل من الدفء، إذ كان الجو بارداً نسبياً.
كانت شرارات النار تتطاير في الجو، والشباب يتحدثون في ما بينهم وقد تجمعت حولهم مجموعة من الأطفال يبحثون عن الدفء الذي يفتقدونه في غرف الإيواء نتيجة تكسر زجاج النوافذ.
يتسامر علاء مع الأشخاص الذين يحيطون به وهو لا يعرفهم بشكل جيد ولا يربطه بهم سوى اللجوء إلى مركز الإيواء نفسه، يضيف “لقد بنيت علاقات اجتماعية جديدة في الحرب، فقد اقتصرت دائرة أصدقائي بمنطقة سكني في شمال غزة، واليوم تعرفت إلى أفراد من المحافظات الوسطى والجنوبية، وانفتحت على ثقافات تختلف بطبيعة الحال عن تلك المتبعة في مدينتنا”.
وللتخفيف من وجع النزوح وقساوة الحرب، نسج سكان غزة علاقات اجتماعية مع المحيطين بهم من نازحين يتشاركون المأساة ذاتها. وتؤكد الباحثة في علم النفس الاجتماعي عبير جمعة أن تلك الصداقات مبنية على تقاسم الوجع والحزن، وعلى رغم ذلك فإنها قد تمتد بعد الحرب وتتطور بشكل جيد، وتصبح بداية التعارف ذكريات مضحكة في المستقبل.
على جانب من “كانون” النار وضع علاء إبريق الشاي، وأخذ يتناول برفقة أصدقائه الجدد وجبة العشاء البسيطة، رغيف خبز ناشف وحبة طمام وفلفل أخضر، يؤكد أن ذلك الطعام لا يشبع طفلاً صغيراً لكن ذلك المتوفر في ظل الحصار ووقف إمدادات الغذاء.
تأثيرات نفسية
كان الظلام حالكاً، هدوء الليل يعكره بين الفينة والأخرى صوت وضوضاء طائرات الاستطلاع والمقاتلات الجوية الحربية التي تقصف بلا هوادة المنازل والأراضي الزراعية والأهداف، مما يخلق حالاً من الخوف والقلق لدى النازحين الذين يرددون في ما بينهم كل مساء تمنياتهم انتهاء الحرب سريعاً.
وعلى رغم أجواء الحرب المخيفة فإن جلسة النازحين لم تخل من النكات ويتبادلون الأدوار لسرد الحزازير والتجارب المضحكة. وحول تلك الجلسات التي يحاولون فيها الترفيه عن أنفسهم، يقول علاء “كان يومنا مرهقاً، قضيناه في البحث عن مياه للشرب وعن الطحين، وتجولنا في السوق الفارغة من البضائع، وقضينا ساعات طويلة في طوابير ننتظر إعادة شحن هواتفنا النقالة… لماذا لا نخفف عن أنفسنا قليلاً بضحكات نسرقها سرقة من بين الأحداث المتلاحقة؟”.
تقول الباحثة في علم النفس الاجتماعي عبير جمعة “ربما يضحك النازحون في ليلهم على رغم الحروب والخوف والهلع، لكن ذلك لا يعني أنهم لم يتأثروا نفسياً، لا شك أن الحرب تخلق عقداً وقلقاً، وابتسامة المشردين تعني في الدراسات العليمة أنهم يحاولون التعايش مع اضطراباتهم الداخلية”.
في أكواب صغيرة صب علاء الشاي، وكان يتسامر مع أصدقائه عن بيوتهم التي شردوا منها وطبيعة حياتهم التي انقلبت رأساً على عقب، ويتناقش مع الآخرين عن روتين يومهم قبل الحرب، لكن طائرة حربية قاطعتهم حين ألقت قربهم قنبلة أحدثت انفجاراً كبيراً.
وعلى الفور تبدل حديث النازحين المسائي وأخذوا يتناقشون في الأمور السياسية وتطورات العملية العسكرية والأحداث المتلاحقة على الساحة الدولية. يوضح علاء أن القصف والغارات باتت تشغل تفكير الصغار والكبار، الذين يسألون دائماً عن موعد انتهاء القتال، ويرغبون بالعودة لحياتهم الطبيعية.
ليل طويل
فجأة عم الهدوء والصمت بين النازحين، وكأنهم تذكروا المعاناة التي حلت بهم، وتفرقوا كل منهم إلى غرفة إيوائه، يشير علاء إلى أن “الليل طويل والنوم معدوم، والقلب يرتجف من شدة البرد وهذه حال النازحين في فترة المساء”.
في ساعات الليل تبدو غرف الإيواء في المدرسة كـ”المقبرة”، بحسب وصف علاء، إذ يخيم عليها الحزن والظلام، يتلاصق الأطفال في الفراش أملاً في اكتساب بعض الدفء.
عندما نزح آلاف الغزيين خرجوا من بيوتهم من دون أمتعة ولا أغطية بسبب كثافة الغارات الإسرائيلية، التي لم تمهلهم الوقت الكافي لجلب ملابسهم الشتوية، لم يدركوا وقتها أن فترة نزوحهم ستطول وسيلقي الشتاء بظلاله الثقيلة عليهم.
تؤكد الباحثة الاجتماعية أن ما يعيشه سكان غزة قاس للغاية، ولا يمكن لأي أحد تحمله، وأن الظروف الصعبة هذه تخلق أفراداً يعانون تدهوراً في الحالات العصبية، لا سيما مع غياب خطط التفريغ النفسي.