بالقرب من الحدود الشرقية بين غزة وإسرائيل، وفي عمق نحو كيلومترين من داخل القطاع، أعادت تل أبيب انتشار قواتها وآلياتها العسكرية، وبذلك تكون قد حددت ملامح شكل القطاع الجغرافي الجديد.
تمركز قوات الجيش في منطقة داخل غزة وأمام الحدود المتعارف عليها جغرافياً وسياسياً، يؤكد أن إسرائيل تستعد لخلق منطقة عازلة جديدة، في أراضي القطاع وعلى حساب مساحته الصغيرة.
إعلان رسمي
بعد انهيار الهدنة الإنسانية في الأول من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، أفصح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للعلن عن خطته لإقامة منطقة عازلة وعميقة في أراضي قطاع غزة، وأبلغ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بنفسه أنه يعتزم تنفيذ ذلك.
وبعد إعادة الجيش الإسرائيلي انتشاره على “الحدود الجديدة” التي خلقها، أكدت هيئة البث الإسرائيلية “كان” أن الفرق الهندسية في الجيش أقامت منطقة عازلة آمنة داخل قطاع غزة، ونجحت في ذلك بعد أن كانت تهدم يومياً 40 منزلاً وعمارة وتنفذ أعمال تجريف وتمهيد لخلق المساحة.
يقول مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي للسياسة الخارجية أوفير فولك إن “إقامة منطقة عازلة داخل القطاع هو جزء من عملية نزع السلاح، نحن لن نسمح بوضع يكون فيه عناصر حركة (حماس) على الحدود، لذلك يجب تقليص مساحة غزة لخلق منطقة مقيدة الوصول تستهدف من يدخلها”.
شكل المنطقة العازلة الجديدة
بحسب الخريطة الجغرافية لقطاع غزة، فإن طوله يبلغ 42 كيلومتراً، وعرضه يتراوح ما بين خمسة كيلومترات إلى 12 كيلومتراً، ومن جهة الشرق والشمال يحده إسرائيل، ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط، وجنوباً مصر.
وبما أن الجهة الشرقية هي التي تحد إسرائيل، ومنها نفذت حركة “حماس” اقتحامها مدن غلاف غزة، ونفذت عمليتها العسكرية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فإن تل أبيب تنوي تدشين المنطقة العازلة في تلك الناحية.
وفقاً للمخطط الإسرائيلي، فإن المنطقة العازلة ستمتد على طول الحدود الشرقية في قطاع غزة، وبعمق مختلف حسب جغرافية الأرض، إذ يتراوح عرضها ما بين كيلومتر واحد إلى كيلومترين.
النتائج المترتبة
في الواقع، يعاني سكان غزة صغر مساحة القطاع الذي يبلغ 365 كيلومتراً، ويشتكون من عدم وجود أراض كافية للبناء عليها، إذ يعيش فيه 2.3 مليون نسمة، ويصنف أنه من أكثر البقاع في العالم اكتظاظاً وكثافة سكانية.
وخلق منطقة عازلة على حساب القطاع يعني تآكل حجمه، إذ تسلب تلك المنطقة نحو 20 في المئة من مساحة غزة، وهذا يجعل إجمالي مساحة القطاع الجديدة تصبح 281 كيلومتراً.
يقول أستاذ الجغرافية السياسية جهاد الحرازين “يصاحب خلق منطقة عازلة تهجير نحو نصف مليون مواطن من منازلهم وتدميرها، حيث كانوا يعيشون في تلك الأراضي، ويجب عليهم الانتقال إلى مناطق أخرى في غزة، وحشرهم في بقعة لا تتناسب مع إجمالي التعداد السكاني”.
ويضيف “يشكل هذا كارثة كبرى، لكنه مخطط إسرائيلي، إذ طلب نتنياهو من وزيره للشؤون الاستراتيجية بالبدء بوضع آليات لتقليل عدد سكان قطاع غزة، وهذا لن يكون إلا بطريقين إما بتهجيرهم أو قتلهم”.
الآمال المرجوة صعبة التحقيق
تهدف إسرائيل من المنطقة العازلة الجديدة إلى منع تكرار تسلل الفلسطينيين لأراضيها، وتوفير الأمن لتل أبيب، لكن التقديرات السياسية تقول إنها غير مجدية ولن تجلب الاستقرار للمنطقة.
يقول الباحث السياسي الإسرائيلي تسفي برئيل “الافتراض العملي للمنطقة العازلة أن غزة ستظل مصدر تهديد برياً، حتى لو تم القضاء على التهديد العسكري الصاروخي، ومثل هذا الشريط الأمني يجب أن يمنح قوات الأمن الوقت الكافي للاستعداد لأي طارئ”.
ويضيف “النتيجة المتوقعة لا تتطلب التخمين، من دون أي ترتيبات سياسية بعد الحرب، سيصبح الجيش الإسرائيلي بالمنطقة العازلة هدفاً مباشراً للمسلحين، من المرجح أن نجد أنفسنا غارقين في الوحل، وفي حرب عصابات وضد سكان مدنيين”.
في هذا الإطار، يؤكد الباحث العسكري مهدي حسنين أن ما تسعى إليه إسرائيل يمثل خدعة جديدة للعمل على احتلال جزء من غزة، وأن المنطقة العازلة ليس لها أي قيمة عسكرية، لعدم وجود عمق كاف يتيح لإسرائيل منع الهجمات الفلسطينية.
ويقول “مدن غلاف غزة قريبة جداً ولا تبعد سوى كيلومترات قليلة وبالتالي بإمكان الصواريخ أن تصل إليها بسهولة، والقوات ستكون في مرمى الفلسطينيين ولا يمكن الجزم بأن المنطقة العازلة ستمنع حصول اشتباكات ومواجهات مباشرة معهم”.
موقف الفلسطينيين
عارض الفلسطينيون بشدة ما نفذته إسرائيل، وبالنيابة عن الفصائل الفلسطينية، يقول عضو المكتب السياسي لحركة “المجاهدين” مؤمن عزيز إنهم يريدون خنق المواطنين، ويعملون على فرض مزيد من المناطق العازلة حتى تضيق مساحة غزة، هذا يجلب مزيداً من المواجهات”.
ومن حركة فتح، يقول المتحدث باسمها عبدالفتاح دولة إن “إقامة منطقة عازلة هو جزء من مشروع التهجير القسري، هذا اعتداء جديد على الأراضي الفلسطينية وبمثابة احتلال، ستكون تداعيات هذا العدوان خطرة وفيها تغيير للجغرافيا السياسية للمنطقة”.
أميركا تعارض
ما إن أفصح نتنياهو عن المنطقة مقيدة الوصول، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر “سنعترض على أي منطقة عازلة، إذا كانت داخل قطاع غزة، إذ إن ذلك يخالف موقف واشنطن المتمثل في أن مساحة القطاع الفلسطيني يجب ألا تتقلص بعد الصراع الحالي”.
وأضاف “إذا كانت أي منطقة عازلة مقترحة داخل غزة، فسيكون ذلك انتهاكاً وشيئاً نعارضه، إما إذا كانت تتعلق بشيء ما داخل الأراضي الإسرائيلية، فذلك قرارهم، يهمنا عدم الإجلاء القسري للفلسطينيين حتى بعد انتهاء الحرب، وعدم احتلال قطاع غزة بعد انتهاء الصراع، وعدم محاولة محاصرة القطاع أو تقليص مساحة أراضيه”.
ليست الأولى
في الحقيقة يوجد أكثر من شريط حدودي مقيد الوصول بين غزة وإسرائيل، إذ في عام 2000 أنشأ الجيش منطقة عازلة بعمق 150 متراً داخل غزة.
وبعد انسحاب تل أبيب من القطاع عام 2005 خلقت منطقة إضافية بمسافة أخرى تصل إلى 300 متر، وبعد سيطرة “حماس” على سدة الحكم عام 2007 فرضت تقييداً جديداً على الأرض بعمق 1500 متر.
وفي أعقاب قتال 2014، عبدت الفصائل المسلحة شارعاً على بعد أمتار من المنطقة العازلة وبعمق 250 متراً تقريباً، وأصبح آخر نقطة محددة بين غزة وإسرائيل ويمنع على المواطنين تجاوزها.
وتشكل إجمالي مساحات المناطق العازلة التي تمتد جميعها على طول الحدود نحو 17 في المئة من مساحة قطاع غزة، وتقدر بنحو 62 كيلومتراً، وهي أفضل مناطق لممارسة أنشطة الزراعة، لكن يمنع الوصول إليها.