في وقت كان يجري فيه الحديث عن احتمال تمدد الهدنة الإنسانية يوماً بيوم مضت الأمور في اتجاه آخر كان متوقعاً في استئناف الضربات مجدداً من خلال تكثيف الضربات على قطاع غزة، وتحديداً الجنوب حيث بدأ الاتجاه إلى منطقة خان يونس.
ومن خلال أيضاً العمل في دوائر التماس ومن خلال التركيز على وادي غزة ما يشير إلى أن المخطط الإسرائيلي لم يتوقف بل بدأ في إطار مراجعة الحسابات، والتقديرات التي يمكن العمل من خلالها عبر استراتيجية مستمرة، ومقيمة بمعنى استمرار العمل العسكري وتنحية الخيار السياسي لبعض الوقت مما يؤكد أن إسرائيل ماضية في نهجها الراهن وعدم الذهاب إلى خيارات توافقية حقيقية.
أهداف أخرى
ذهبت إسرائيل لاستئناف المواجهات في قطاع غزة نتيجة إدراكها أن حركة “حماس” والمقاومة الفلسطينية باتت في موقع ضعيف، حيث بدأ الحديث حول الخيارات السياسية الحقيقية التي أبدتها الحركة على لسان رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية، ومن قبل عدد آخر من مسؤولي المكتب السياسي في إشارة إلى العودة لتفاهمات سياسية جديدة للبقاء في حكم القطاع مجدداً أو على الأقل في ظل رهانات بأن “حماس” قد تكون ضمن المعادلة الحقيقية المقبلة.
ولهذا كان رد موقف الحكومة الإسرائيلية وبعد الاحتكام إلى التقارير الأمنية والاستخباراتية بأن “حماس” باتت في موقف ضعف وأنها تريد التقاط الأنفاس للذهاب إلى المواجهة بعد أن نجحت إسرائيل في الوصول إلى قلب مدينة غزة، ومع استمرار التصعيد العسكري اللافت، الذي تسبب في سقوط الآلاف من الفلسطينيين.
مجلس الحرب الإسرائيلي يرفض تحذيرات المستوى السياسي ويتجه إلى خيار آخر، وهو استئناف المواجهات بصورة كبيرة خصوصاً أنه لا يوجد بديل أمام تل أبيب سوى تنفيذ بنود بنك الأهداف الرئيسة التي عملت عليها إسرائيل بعد استيعاب ما جرى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
ومن ثم جاء المستوى العسكري ليهيمن على القرار السياسي، على رغم التصويت لصالح الهدن الإنسانية لأيام عدة فإن التصميم كان على استمرار العمل العسكري وعدم تقديم تنازلات من أي نوع حتى مع احتفاظ الفصائل الفلسطينية بعدد من الجنود كأسرى حرب.
ما زال لدى حركة “حماس” جثامين من مواجهات سابقة بل وجنود أيضاً مما يعني أن إسرائيل لم تعد تلتفت إلى ضغوط التمسك بملف الأسرى كعنصر ضغط حقيقي على قرار مجلس الحرب بالاستمرار في المواجهة مجدداً، والدخول إلى مناطق الجنوب بل والمناورة في إطار العمل العسكري حتى لو كلف الأمر مزيداً من الضحايا، فأمن الدولة في مواجهة أمن الأفراد، وهكذا نجح مجلس الحرب في استئناف العمليات مجدداً مع التوقع بتوقف تكتيكي للضغط على الحركة للإفراج عن مزيد من الأسرى دفعة واحدة.
إن كسر ما جرى الاتفاق في شأنه في اتفاق الوسطاء في الدوحة، وهو ما تم تحت إشراف أميركي كامل وتحت عناية مدير الاستخبارات المركزية نفسه ويليام بيرنز، يؤكد أن الولايات المتحدة فشلت في الضغط على إسرائيل للاستمرار في التهدئة ولو لبعض الوقت بل بمجرد مغادرة وزير الخارجية الأميركي بلينكن تم استئناف الضربات على جنوب غزة.
الداخل المعقد
ما يجري من استئناف الضربات على جنوب غزة يشير أيضاً إلى مخاوف تفكك مكونات الائتلاف بعد تهديد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير من الخروج من الحكومة حال توقف إطلاق النار أو القبول بتهدئة كاملة مما شجع على تمرير استئناف المواجهات، وكذلك إعادة تكرار المخطط الإسرائيلي بضرورة حسم الأمر لصالح العمل العسكري وعدم الرضوخ للأطراف الوسيطة ولا الولايات المتحدة، بخاصة أن حالة الانقسام في الداخل الإسرائيلي ظلت كبيرة ومتسعة.
وما لم يحدث توافق في هذا الشأن فإنها مرشحة للتصعيد في ظل حالة الحراك الشعبي الكبير في الشارع الإسرائيلي، بخاصة أن استطلاعات الرأي تمضي في إطار استمرار العمل العسكري، وهو ما أظهره آخر استطلاع طرحه مركز الأمن القومي الإسرائيلي الذي يضم الجنرالات الكبار السابقين في الجيش الإسرائيلي.
السؤال إلى أين تمضي العمليات العسكرية الراهنة، وهل نحن أمام استمرار عمل عسكري مفتوح ومباشر في الجنوب، أما أننا أمام ترتيبات أمنية محدودة في الجنوب في ظل ما يجري من مهاترات ورد فعل على المستوى العسكري بأكمله وليس فقط مجلس الحرب؟
الإجابة أننا نحن أمام عدة معطيات جديدة أولها: استمرار الحكومة الإسرائيلية في خطها واحتمالات واردة لفتح بنك الأهداف مما يعني استئناف سياسة الاغتيالات العسكرية والمدنية وتجاوز كل خطوط المواجهة مما يعني أننا أمام سيناريو صفري قد يؤدي لتداعيات خطرة في حال الوصول إلى هذا المسار.
وثانياً: أن الحل لوقف العمليات تجاوز الضغوط الأميركية أو العربية أو غيرها إلى الدخول والنفاذ إلى تنفيذ ترتيبات من جانب واحد سواء في شمال القطاع أو جنوبه مع العمل على منظومة واحدة من الخيارات واختبار قدرات حركة “حماس” خصوصاً أن الهدف طرد أو ترحيل العناصر الفلسطينية سواء الشعب الفلسطيني في القطاع أو قياداته إلى الخارج، وتطبيق خيار المبعدين إلى خارج القطاع وتفريغه من كل العناصر مما يسمح بنزع سلاح الفصائل بالكامل، وتركه في إطار مهام جديدة لأجهزة أمن فلسطينية مهنية مدعومة إسرائيلياً.
وقد يأخذ هذا الإجراء بعض الوقت وقد لا ينفذ في التوقيت الراهن إلى مرحلة ما بعد الرئيس محمود عباس وتولي قيادة فلسطينية بديلة مما يعطي الحق وفق المنطق الإسرائيلي للبقاء في القطاع، ولأطول مدة معينة بل قد تراهن إسرائيل على مزيد من الإجراءات الأمنية في عمق القطاع وليس فقط في الشمال وصولاً إلى منطقة وادي غزة، مما يؤكد أن إسرائيل لن تقبل في التوقيت الراهن العودة إلى المرحلة السابقة على عجل.
في التقدير الأمني والاستخباراتي، فإن المستوى العسكري سيتجه إلى مزيد من الخيارات الأخرى التي يمكن طرحها في إطار رسم سيناريو فعلي وواقعي لصالح إسرائيل، وبما يعني أن “حماس” لن تكون ضمن أي معادلة في الفترة المقبلة، وأن استخدام القوة الممنهجة سيكون هو الحل الحقيقي المؤدي إلى الواقع الآمن، الذي يمكن أن يكون عنواناً للمرحلة التالية، ومن دون أن يكون هناك أخطار على إسرائيل في المديين القصير والمتوسط الأجل.
ترتيبات حقيقية
سيواجه استئناف الضربات على جنوب القطاع بسؤال استراتيجي حول مدى حاجة إسرائيل إلى عملية شاملة مثلما كان في شمال القطاع أم عمليات سريعة خاطفة من خلال ضربات في مناطق التماس، وعدم تكرار ما جرى من خسائر على الجانب الإسرائيلي، وفي ظل رفض دولي لما يجري يرى المستوى العسكري أن الدخول بعملية نوعية عسكرية في الجنوب غير مجدٍ، فالشمال كان ساحة المواجهة الحقيقية، التي أمكن التعامل معها، وحسمت ووُجِّدت إسرائيل على الأقل في حدود 20 كيلومتراً شمال القطاع بما قد يؤدي إلى إقامة منطقة عازلة، وإجراء ترتيبات أمن حقيقية ومتكاملة وبما يعطي مؤشراً إلى ما سيجري من أولويات حقيقية في الحسم والمواجهة بالفعل أما الجنوب، فإما أن يرحل عناصره إلى الخارج والأقرب إلى مصر أو من خلال دور لقبرص عبر منفذ بحري أو من خلال سواحل القطاع عبر إشراف دولي.
يعني هذا الأمر أن مخطط إسرائيل لم يتغير على رغم كل ما تم من ضغوط دولية وإقليمية، وأن هناك أخطاراً على استمرار هذا المشهد مع مجموعة العسكريين الذين يتولون إدارة الأمر، ومصممون على المضي فيه في ظل عدم قدرة المقاومة الفلسطينية على ملاحقة ما يجري أو الذهاب إلى خيارات المواجهة فقدرات المقاومة ضعفت، والمواجهة مع القوات الإسرائيلية في الوقت الراهن تحتاج إلى آليات أخرى مختلفة في ظل ما يجري من ترتيبات أمنية تقوم بها إسرائيل.
وفي ظل مخاوف من اتساع ما يجري وتنفيذ مخطط المواجهة العسكرية الشامل في ظل تضرر البنية العسكرية للمقاومة الفلسطينية وافتقادها إلى التعامل مع التسويق الإعلامي والسياسي لحركة “حماس” بالحل السياسي، وإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة، وفي ظل مزايدات حقيقية تركز على البقاء في المعادلة الراهنة، التي تعمل في مساحات حذرة في الوقت الراهن.
ومن ثم فإن إسرائيل تدرك أن الاتجاه إلى الحل السياسي مع السلطة والقطاع لن يتم إلا بعد أن تتم الترتيبات الأمنية الكاملة ليس فقط في القطاع، وإنما أيضاً في الأغوار بأكملها تأميناً لحدود إسرائيل وفرض استراتيجية الردع المقابلة في أي وقت مع أي تهديد آني أو مرحلي من داخل أي كيان فلسطيني يتم تمريره أو قبوله في مرحلة راهنة أو منتظرة.
الخلاصات الأخيرة
إن استئناف العمليات على جنوب غزة قد يؤدي إلى انفتاح المشهد الراهن على سيناريوهات متعددة في ظل خيارات متنوعة، ولكن المشكلة مرتبطة وفي المقام الأول بطرفي المعادلة خصوصاً أن المتوافر أن دعم حركة “حماس” من خلال جبهة “حزب الله” أو الضفة غير وارد، ولن يتم في ظل ما يجري من خيارات متعددة مكلفة للجانب الفلسطيني وفي ظل الرهانات على البديل الأميركي، الذي قد يكون روسيا أو الصين، وكلاهما ليس لديهما القدرات الكافية للتحدي، وما لم تتضرر المصالح الأميركية الكبيرة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وخارجه بالفعل لن تقدم الإدارة الأميركية على التدخل، وإنهاء الحرب الدائرة على جنوب القطاع.
إسرائيل ستظل تستقوي بعدم التفاعل مع دعاوى التهدئة أو الذهاب إلى وقف تكتيكي للحرب، وإلى حين يعود الوسطاء الذين لم يتوقفوا إلى التدخل على مسار آخر، والضغط في اتجاه تفكيك المعضلة الراهنة الخاصة بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، والتعامل بحذر مع الترتيبات الأمنية والاستراتيجية التي ستعمل عليها إسرائيل في الوقت الراهن تزامناً مع ما يجري من استهداف الجنوب ومناطق التماس القريبة منه أيضاً.