على رغم التصعيد المتواصل للحوثيين في البحر الأحمر بمهاجمة السفن التجارية عند باب المندب، لم تنتقم الولايات المتحدة حتى الآن بمهاجمة أية مواقع تابعة للحوثيين على الشاطئ في اليمن لتجنب توسيع الحرب بين إسرائيل و”حماس” في غزة إلى صراع إقليمي، ومع ذلك تنص استراتيجية الأمن القومي الأميركي الحالية بصورة قاطعة على أن واشنطن لن تسمح لأية قوى أجنبية أو إقليمية بتعريض حرية الملاحة للخطر، فماذا ستصنع أميركا عندما يعلن وزير دفاعها خلال ساعات عن قوة عمل بحرية دولية مشتركة؟ وما طبيعة حساباتها وخياراتها المعقدة؟
مخاوف التصعيد
منذ أن بدأت هجمات الحوثيين من اليمن على السفن التي تمر عبر مضيق باب المندب في مدخل البحر الأحمر واستهدافهم السفن المرتبطة بإسرائيل، ثارت مخاوف واسعة حول تأثير ذلك على تدفق النفط والحبوب والسلع الاستهلاكية عبر شريان تجاري عالمي، لكن عندما صعد الحوثيون هجماتهم خلال الأيام القليلة الماضية باستهداف سفن حاويات وناقلات نفط ترفع أعلام دول مثل النرويج وليبيريا دارت أسئلة كثيرة عما إذا كانت الولايات المتحدة والدول الشريكة لها ستتدخل لمنع تهديد الملاحة البحرية.
وفيما أسقطت المدمرة الأميركية “كارني” والمدمرة البريطانية “أتش أم أس دايموند” السبت الماضي 15 طائرة مسيرة انطلقت من المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون في اليمن خلال 45 دقيقة فقط، اعتبر خبراء دفاع أميركيون هذا الهجوم بمثابة نقطة تصعيد أكثر سخونة تزامنت مع قرب وصول وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن ورئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة سي كيو براون إلى الشرق الأوسط للإعلان عن إنشاء قوة عمل بحرية ستتكون من سفن هجومية من دول عدة لردع الحوثيين وللدفاع عن السفن ضد تهديداتهم في البحر الأحمر.
عملية حارس الازدهار
وبحسب موقع “بوليتيكو” ستتولى هذه القوة البحرية تنفيذ ما أطلقت عليه الولايات المتحدة “عملية حارس الازدهار”، والتي ستكون عبارة عن جهد دولي مشابه لقوة المهام المشتركة 153 القائمة حالياً لتعزيز الأمن البحري في هذه المنطقة ومكافحة الإرهاب والقرصنة، وقد تكون أيضاً توسيعاً لهذا التحالف المتعدد الجنسيات، وفق ما قاله المبعوث الأميركي الخاص إلى اليمن، تيم ليندركينغ في 14 ديسمبر (كانون الأول)، عام 2022، حين تأسست هذه القوة، وتضم بالفعل 39 دولة قادتها مصر لمدة ستة أشهر انتهت في يونيو (حزيران) 2023، وتقودها حالياً الولايات المتحدة.
وبينما لم يكشف بعد رسمياً عن عدد الدول التي ستشارك أو طبيعة المهام التي ستؤديها القوة بعد القيام بدوريات في البحر الأحمر ضد تهديدات الحوثيين، توقع خبراء أمنيون سابقون أن تشمل القوة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا التي شاركت بالفعل خلال الأسابيع الماضية في إسقاط طائرات مسيرة وصواريخ أطلقها الحوثيون، فضلاً عن عدد من الدول العربية الخليجية ومصر والأردن.
وكانت الولايات المتحدة تسعى إلى إقناع الصين بالانضمام إلى هذه القوة خلال اتصال هاتفي أجراه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مع نظيره الصيني على اعتبار أن بكين تمتلك نفوذاً يمكن أن تمارسه على إيران التي تمول وتسلح وتدرب الحوثيين في اليمن منذ سنوات، فضلاً عن أن الصين لديها مصلحة مباشرة في تأمين خطوط الملاحة البحرية التي تنقل بضائعها عبر هذا الممر الملاحي الذي يمر من خلاله 10 في المئة من حركة النقل البحري عالمياً، ومع ذلك لم يعرف ما إذا كانت الصين وافقت على المشاركة.
ولم توضح كذلك وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) ما إذا كانت مدمرات الدفاع الصاروخي “لابون” و”ديلبرت دي بلاك” و”ذا سوليفان” التي وصلت الأسبوع الماضي إلى البحر المتوسط لتعزيز الوجود الأميركي هناك قد تتجه إلى البحر الأحمر للمساهمة في الجهود العسكرية ضد هجمات الحوثيين.
دوافع التحرك الأميركي
تدرك الولايات المتحدة أن الميليشيات التابعة لإيران تريد إرسال رسالة تضامن مع الشعب الفلسطيني، وأنها تحتاج إلى إظهار أنها تتصرف ضد أميركا وسط الحرب في غزة، لكنها تدرك أيضاً أن طهران مثل واشنطن، لا تريد أن تأخذ الأمور إلى أبعد من ذلك، وهذا على ما يبدو كان السبب وراء التردد الأميركي في اتباع سياسة الانتقام التي تثير مخاوف من أن أي خطأ قد يؤدي إلى موجة أكبر من أعمال العنف، وذلك بحسب مدير مؤسسة “سنشري إنترناشيونال” ثاناسيس كامبانيس الذي يرى أن أية حسابات خاطئة قد تؤدي إلى حرب أوسع نطاقاً.
غير أن الحسابات الأميركية بدأت في التغيير قليلاً خلال الأسابيع الأخيرة لثلاثة أسباب، أولها أن إدارة الرئيس بايدن تعرضت لانتقادات واسعة من الجمهوريين في “الكابيتول”، حيث انتقد رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب مايكل ماكول، الرئيس بايدن لفشله في وقف هجمات الحوثيين وتشجيعهم على شن هجمات متكررة من خلال إعطاء الأولوية للسياسة على الأمن، وحث على اتخاذ إجراءات أكبر ضد الجماعة، بما في ذلك تصنيفها كمنظمة إرهابية أجنبية، كما طالب زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، بردع إيران التي تعتقد بحسب وصفه أن بإمكانها محاولة قتل الأميركيين مع الإفلات من العقاب.
كما انتقد المرشحون الرئاسيون الجمهوريون أيضاً بايدن خلال مناظراتهم الأخيرة، إذ طالبت نيكي هايلي سفيرة أميركا السابقة لدى الأمم المتحدة بالرد بقوة واتهمت بايدن باسترضاء إيران، فيما قال حاكم ولاية فلوريدا، رون ديسانتيس، وهو من المحاربين السابقين في البحرية، إن القوات الأميركية “تجلس مثل البط” بالشرق الأوسط في إشارة إلى عدم قيامها بدورها المطلوب، وهو القتال.
أما السبب الثاني، فيتعلق بارتفاع وتيرة الهجمات، فبعد أن أسقط الحوثيون طائرة تجسس استخباراتية أميركية مسيرة من طراز “ريبر” كانت تحلق فوق المياه الدولية للبحر الأحمر، اشتبكت الولايات المتحدة مرات عدة مع الحوثيين في اليمن، والذين أطلقوا طائرات مسيرة على السفن الحربية الأميركية وهاجموا السفن التجارية، بما في ذلك اختطاف سفينة الشهر الماضي، وأصابوا سفينتين تجاريتين وأشعلوا النار في أجزاء منهما، فيما يعد تهديداً خطراً للأمن البحري التجاري العالمي، وهو ما يتصادم مع استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي تنص بصورة قاطعة على أن الولايات المتحدة لن تسمح لأية قوى أجنبية أو إقليمية بتعريض حرية الملاحة للخطر.
أخطار اقتصادية عالمية
ويعود السبب الثالث إلى أن خمسة من أكبر شركات الشحن العالمية الكبرى أعلنت وقف تسيير سفنها عبر البحر الأحمر في أعقاب الهجمات التي شنها الحوثيون، مما يشير إلى اتساع نطاق التأثير في التجارة العالمية. ويشير الباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، نوعام ريدان، إلى أن بعض السفن بدأت تسلك الطريق الأطول حول أفريقيا ورأس الرجاء الصالح ما يطيل زمن الرحلة من نحو 19 إلى 31 يوماً اعتماداً على سرعة السفينة وزيادة الكلف.
ويرى خبير التأمين في تحليلات شركة لويدز، التي تقدم تحليلات للصناعة البحرية العالمية، ديفيد أوسلر أن كلف التأمين تضاعفت بالنسبة لشركات الشحن التي تتحرك عبر البحر الأحمر، وهو ما يمكن أن يضيف مئات الآلاف من الدولارات إلى رحلة السفن، كما توقع أن تستمر كلف التأمين في الارتفاع، فيما اعتبر مونرو أندرسون، رئيس العمليات في شركة تختص بتقييم أخطار الحرب في البحر وتوفر التأمين بدعم من لويدز، أن الهجمات الأخيرة تظهر أن التهديد المتزايد للسفن في البحر الأحمر يمثل عائقاً كبيراً أمام الشحن التجاري في المنطقة التي يشكل أعضاؤها أكبر سوق للتأمين في العالم، مشيراً إلى أن هناك درجة أخرى من عدم الاستقرار تواجه المشغلين التجاريين داخل البحر الأحمر والتي من المرجح أن تستمر في رؤية معدلات مرتفعة على المدى القصير إلى المتوسط.
كما كشف رئيس هيئة قناة السويس الفريق أسامة ربيع عن إعادة توجيه 55 سفينة حول رأس الرجاء الصالح، بينما حذر خبراء من أن استمرار هذا الوضع من شأنه أن يمثل ضربة للاقتصاد المصري الذي يعتمد على تحصيل 9.5 مليار دولار من إيرادات قناة السويس سنوياً وفقاً لبيانات 2022-2023، ولهذا فإن الرد على هجمات الحوثيين أو في الأقل ردعها عبر قوة حماية أكبر، يهدف إلى طمأنة شركات الشحن التجارية التي تتجنب استخدام البحر الأحمر بأن هجمات الحوثيين سيتم إيقافها، وأن البحر سيظل آمناً للشحن التجاري.
هل يستطيع الحوثيون إغلاق البحر الأحمر؟
من غير المحتمل أن يتمكن الحوثيون من إغلاق البحر الأحمر، إذ لا يوجد لديهم سفناً حربية بحرية بحيث تمكنهم من فرض طوق، وهم يعتمدون بدلاً من ذلك على إطلاق نيران الهدف منها التحرش بالسفن، وشنوا هجوماً واحداً فقط بطائرة هليكوبتر حتى الآن، في حين أن السفن الحربية الأميركية والبريطانية والفرنسية وغيرها من سفن التحالف تقوم بدوريات في المنطقة، مما يبقي الممر المائي مفتوحاً، وذلك بحسب جون ستاوبرت، كبير مديري البيئة والتجارة في الغرفة الدولية للشحن، التي تمثل 80 في المئة من الأسطول التجاري العالمي.
ويرى ستاوبرت أنه على رغم القلق من هجمات الحوثيين وضرورة عدم الاستخفاف بها، فإن قدراً هائلاً من التجارة سيظل يمر عبر البحر الأحمر لأنه خط إمداد بالغ الأهمية لأوروبا وآسيا، مشيراً إلى أن منطقة نفوذ الحوثيين في الممر المائي لا تزال محدودة، من ثم ليس هناك احتمال بأن يتمكن الحوثيون من إغلاق هذا الممر البحري الحيوي، كما لا يوجد تهديد خطر للشحن بصورة عامة، ولكن إذا ظهر ذلك كاحتمال، فسيكون هناك رد فعل أقوى بكثير من القوات البحرية في المنطقة.
خيار التصنيف كجماعة إرهابية
وفيما تعزز الولايات المتحدة وشركاؤها قواتهم العسكرية في المنطقة، وتحميل مستشار الأمن القومي جيك سوليفان إيران مسؤولية تصعيد الهجمات لأنها تسلح وتدعم الحوثيين، بدا أن تصنيف جماعة الحوثيين ضمن المنظمات الإرهابية الأجنبية، يمكن أن يشكل مساراً لردعهم، بما في ذلك الحد من تمويل الجماعة، إذ إن ذلك من شأنه أن يساعد واشنطن على تحقيق أهدافها من دون أن يعرض محادثات السلام بين الحوثيين والحكومة اليمنية المعترف بها دولياً للخطر، وفقاً لمدير مركز الإرهاب والتطرف ومكافحة الإرهاب في معهد ميدلبري للدراسات الدولية جيسون بلازاكيس الذي يرى أن ذلك سيكون إشارة إلى استياء الولايات المتحدة من التصرف الإيراني.
وفيما يعتقد المدير الأول لمركز القوة العسكرية والسياسية التابع لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات برادلي بومان أن تمرير رسائل التحذير لإيران لن يحل المشكلة وأن إعادة الحوثيين لقائمة المنظمات الإرهابية هو الحد الأدنى الذي يجب أن تفعله واشنطن، يرى المتخصص الأمني ريتشارد غولدبيرغ أن الدوريات البحرية الموسعة مهمة، لكن سيكون هناك حاجة إلى رد مباشر في اليمن ومحاسبة طهران للحد من التهديد.
حسابات الانتقام
غير أن الولايات المتحدة لم تتخذ حتى الآن قراراً بالانتقام من هجمات الحوثيين وامتنعت عن استهدافهم على رغم تكرار الهجمات، حيث أوضح المتحدث باسم البنتاغون بات رايدر أن الولايات المتحدة ستواصل التركيز ليس فقط على الردع، بل أيضاً على حماية قوتها، مشيراً إلى أن بلاده تنجح في ردع الميليشيات المدعومة من إيران.
ويرى المتخصص في شؤون العراق وإيران في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، مايكل نايتس، أن الولايات المتحدة تمكنت من إبقاء القتال عند مستوى متناسب لأنه لا يوجد تهديد حقيقي، حيث لم يقتل أي من أفراد الخدمة الأميركيين في الهجمات الأخيرة، فيما يبدو أن الميليشيات المدعومة من إيران تصمم الهجمات الصاروخية والطائرات المسيرة بحيث تتجنب سقوط قتلى.
وعلى رغم اعتراف نايتس بأن ردع الحوثيين في اليمن فشل، لأن الولايات المتحدة تتعمد الامتناع عن تنفيذ ضربات تدميرية ضدهم، إلا أنه يشير إلى أن أحد أسباب ضبط النفس هو منع انهيار محادثات السلام في الحرب المستمرة منذ سنوات بين الحوثيين والحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، وكلاهما في وقف هش لإطلاق النار، بخاصة أن إدارة بايدن تعرضت لضغوط من الكونغرس، لإعلان الهدنة في اليمن وطلب السلام.
هل ترد أميركا؟
ومع ذلك، يشكل التهديد الحوثي المتزايد للشحن البحري تحدياً لا يمكن لإدارة بايدن تجاهله، نظراً إلى التزام الولايات المتحدة بإبقاء مضيق باب المندب مفتوحاً وآمناً أمام الملاحة الدولية، بخاصة أن أميركا شكلت سابقة للانتقام في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2016 حين أطلقت مدمرة الصواريخ الموجهة الأميركية “ماسون” صواريخ “توماهوك” لتدمير ثلاثة مواقع رادار تابعة للحوثيين في الأراضي اليمنية بعد أن أطلق الحوثيون صاروخين على المدمرة، وهو ما نفاه الحوثيون آنذاك، لكن في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أسقط الحوثيون طائرة تجسس أميركية مسيرة من طراز “أم كيو 9 ريبر”، وأصدروا بفخر مقطع فيديو لإسقاطها.
ويشير المتخصص في مركز ويلسون ديفيد أوتواي إلى أن المسار الأكثر حكمة الذي يمكن أن تتخذه إدارة بايدن هو تكرار الرد الأميركي المدروس على هجوم الحوثيين على السفينة “ماسون” عام 2016، والذي كان ينظر إليه في المقام الأول كتحذير، لكن إذا استمر الحوثيون في هجماتهم على السفن، فلن يكون أمام الولايات المتحدة خيار سوى الرد بقوة أكبر، وقد يأتي هذا مع خطر عرقلة محادثات السلام في اليمن وإعادة إشعال الحرب الأهلية اليمنية، لكن دفاع الولايات المتحدة عن الملاحة في الممرات المائية الدولية الاستراتيجية أصبح على المحك الآن.
ومع ذلك، فإن الأمر قد يتطلب عوامل أخرى تساعد على خفض التصعيد، حيث يقول لورانس ويلكرسون، وهو عقيد أميركي متقاعد، إن على بايدن أن يتوصل إلى حل للحرب في غزة إذا كان يريد منع الصراع في الشرق الأوسط من الخروج عن نطاق السيطرة.