في عام 2022 أتت الحرائق على 370 هكتارا من مجمل مساحة لبنان، أما هذه السنة فقد أدت اشتباكات حزب الله وإسرائيل إلى احتراق أكثر من 500 هكتار في منطقة واحدة في البلاد وهي الجنوب.
وبينما تتهم السلطات اللبنانية إسرائيل بتعمّد افتعال الحرائق في ظل ما يوصف في لبنان بسياسة الأرض المحروقة، بدأت جمعيات تُعنى بالبيئة تتحدث عن إبادة بيئية، وهي عبارة ظهرت في البداية أثناء حرب فيتنام.
هذا الأمر فرض نفسه على أجندة لبنان في مؤتمر الأطراف من أجل المناخ في دبي، إذ يقول وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال ناصر ياسين : “لا يمكن أن نتحدث عن التغيير المناخي وعن خفض الانبعاث والتأقلم والتكيّف ولدينا جيش احتلال يدمّر مساحات هائلة من البيئة اللبنانية”.
يذكر أن لبنان ما يزال يعتبر رسميا أن إسرائيل تحتل مناطق في جنوبي البلاد بالرغم من انسحابها عام 2000.
حرق متعمد
يتهم لبنان إسرائيل باستخدام قنابل حارقة مضيئة وفوسفورية تتعمد من خلالها حرق مساحات خضراء من بينها أحراش وممتلكات خاصة بها أراض زراعية وأشجار زيتون معمرة.
وتعتمد الدولة في اتهامها هذا على تقارير الجيش اللبناني بشكل أساسي وعلى رصد المساحات من خلال صور الأقمار الصناعية التي يجري تحليلها في المركز الوطني للبحوث العلمية التابع لمجلس الوزراء.
تحليل هذه الصور يُظهر شدة الحرائق في كل منطقة – بين منخفضة إلى متوسطة ومتوسطة إلى مرتفعة – كما يبين نوع المساحات المحترقة وطريقة استخدامها وتوزيع خريطة الحرائق.
بالإضافة إلى ذلك، يرصد المركز أنواع الهجمات وطبيعة القصف الذي تعرضت له كل منطقة.
“ما رصدناه يبيّن نية لتدمير بيئي ممنهج، ولا سيما من خلال استخدام القنابل الفوسفورية وطريقة توزيعها وكيفية تأثيرها في الزرع من حولها. وهذا التدمير البيئي يخلق بيئة حرب لعزل هذه المنطقة وتجريدها من كل معطيات الحياة” حسبما يقول شادي عبد الله مدير مركز الاستشعار عن بعد في المركز الوطني للبحوث.
إلا أن تحديد الأثر على التربة والمزروعات ينتظر تحاليل مخبرية علمية ودقيقة لعيّنات من هذه التربة، لم يتسن للدولة القيام بها قبل بدء سريان الهدنة بسبب الأوضاع الأمنية.
ولكن حتى ما قبل ذلك، ظهرت مؤشرات خطيرة من بينها ذبول مزروعات على مسافة بعيدة نسبياً من منطقة الحريق وبعد أيام على اندلاعه، وفق ما يقول عبد الله.
ما قد تظهره هذه التحليلات أيضا هو حجم الضرر الذي لحق بالتربة وبالتالي الفترة الزمنية التي تستغرقها لاستعادة عافيتها وتخلّصها من رواسب الحريق.
تسمم التربة
ليست الدولة اللبنانية فقط من تتهم إسرائيل باستخدام قنابل من الفوسفور الأبيض في حربها الأخيرة في لبنان وغزة. فمنظمات دولية مثل “هيومن رايتس واتش” و”أمنستي إنترناشونال” أصدرت أيضا تقارير بهذا الخصوص.
ورغم الإجماع على خطورة استخدام هذه القنابل على الأفراد وحظر استخدامها دوليا ضد المدنيين – لا توجد إلا دراسات قليلة بشأن الأثر البيئي لهذه القنابل، كما يقول عباس بعلبكي، الباحث في الجامعة الأمريكية في بيروت والناشط في جمعية “جنوبيون خضر” غير الحكومية التي رصدت هي أيضا الحرائق الناجمة عن القصف الإسرائيلي.
“الحرائق مقصودة” بحسب بعلبكي الذي يضيف قائلا: “ما الهدف من رمي قنابل مضيئة في وضح النهار سوى افتعال حرائق؟ لقد اندلع عدد من هذه الحرائق في مناطق محاذية لمركز قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في الجنوب. لا يمكن ادعاء وجود هدف عسكري تكتيكي لقصف هذه المواقع”.
المقصود هنا هو الردّ على فكرة أن القصف الإسرائيلي قد يكون بهدف كشف الغطاء عن تحركات حزب الله العسكرية في الجنوب، ولا سيما أنه غالبا ما يقصف من بين الأشجار؛ ويسهم الغطاء الطبيعي في تمويه نشاطاته الحربية والقتالية.
كما أن “عددا كبيرا من المناطق التي تُقصف مقطوعة، ولا توجد طرق تؤدي إليها” كما يقول عبد الله الذي يضيف : “إنه اعتداء همجي على الطبيعة. فالتربة قد تسممت وهذه السموم مؤذية، كما يُمكن أن تقضي على عدد كبير من الحيوانات في أسفل الهرم الغذائي. فلماذا تُقام محميات طبيعية ومبادرات لحماية الحياة البرية داخل إسرائيل على بُعد 20 كلم من الحدود مع لبنان والطبيعة لدينا تُقتل؟”.
الرد الإسرائيلي
ترد السلطات الإسرائيلية على الاتهامات اللبنانية بتأكيدها أن “حزب الله يعمل بشكل منهجي من المناطق المدنية في جنوب لبنان وينتهك قرار الأمم المتحدة رقم 1701 داخل الأراضي التي من المفترض أن تكون منزوعة السلاح. وفي الوقت الذي يقوم خلاله حزب الله باستهداف المدنيين، يعمل الجيش الإسرائيلي للدفاع عن المدنيين الإسرائيليين ونزع أي تهديد ضدهم”.
لكن حزب الله يقول إنه استهدف في الاشتباكات الأخيرة مواقع عسكرية إسرائيلية وجنودا إسرائيليين بشكل أساسي. كما يؤكد أن “استهدافه لأي مدني يكون رداً على قصف إسرائيل لمدنيين لبنانيين”.
وعلى ضوء الاتهامات اللبنانية، حدّد لبنان خطة تحرك ستبدأ حسب المسؤولين اللبنانيين برفع شكوى أمام مجلس الأمن واللجوء إلى كل الوسائل المتاحة ضمن القانون الدولي للمطالبة بتغريم إسرائيل عن الضرر الذي يتهمها بالتسبب فيه.
“من هنا أهمية هذا التوثيق الذي نقوم به”، يقول ياسين الذي ينطلق من سابقة حققها لبنان عندما صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2014 على قرار يطالب إسرائيل بدفع 850 مليون دولار للبنان تعويضا عن الأضرار التي تسببت فيها غارة إسرائيلية على خزانات وقود أثناء حرب تموز 2006 والتي تسببت في تسرب نفطي وصفه قرار الجمعية العمومية بـ”الكارثة البيئية”.
الا أن هذا القرار لم ينفذ، وإسرائيل لم تدفع، ما قد يطرح أسئلة بشأن التوقعات من رفع قضية جديدة.. لكن “لا يلغي ذلك أن هذا حق للبنان، ولن نتردد بالمطالبة به ولو حصل بعد حين”، يردّ ياسين.