على رغم الجدل القانوني الذي أثاره حكم المحكمة العليا في ولاية كولورادو بعدم أهلية الرئيس السابق دونالد ترمب لتولي المنصب مرة أخرى، بسبب ما وصفته المحكمة بأنه تورط في تمرد أدى إلى اقتحام مبنى الكابيتول في السادس من يناير 2021، إلا أن الحكم صاحبته تداعيات سياسية ستلقي بظلالها على مسار الانتخابات، سواء التمهيدية داخل الحزب الجمهوري أو الانتخابات العامة المقررة في نوفمبر 2024، فما هي هذه التداعيات؟ وكيف تنعكس على مسار الانتخابات والانقسام السياسي الحاد في الولايات المتحدة؟
جدل متواصل
لم ينقطع الجدل في الولايات المتحدة منذ أن خلص قرار المحكمة العليا في ولاية كولورادو بغالبية أربعة إلى ثلاثة أن المادة الثالثة من التعديل الـ 14 للدستور الأميركي، والتي تحرم الذين ينضمون إلى تمرد ضد الدستور من مناصبهم بعد أدائهم قسم الولاء للدستور ودعمه، تنطبق على دونالد ترمب، مما يجعله غير مؤهل لمنصبه، ومن ثم ينبغي حرمانه من إدراج اسمه في الاقتراع الرئاسي للولاية.
وعلى رغم أن القرار يمكن الطعن فيه من قبل ترمب وحملته أمام المحكمة العليا الأميركية في واشنطن، إلا أن كونه سابقة تاريخية لم تحدث من قبل في الولايات المتحدة، فكان ذلك كافياً لإثارة الخلافات والاتهامات بين الجمهوريين والديمقراطيين، بخاصة بعدما تم رفض دعاوى قضائية مماثلة في ولايتي مينيسوتا ونيوهامشر لأسباب إجرائية، وحكم قاض في ميشيغان الشهر الماضي بأن القضية سياسية وليس من حقه أن يقررها، وأكدت محكمة الاستئناف قرار عدم استبعاد ترمب، فيما استأنف المدعون هناك أمام المحكمة العليا في ميشيغان.
عدم يقين
وكان من الطبيعي أن يفجر الحكم مزيداً من عدم اليقين القانوني للسباق الرئاسي لعام 2024، كونه يضع مصير ترشح ترمب في أيدي المحكمة العليا الفيدرالية الأميركية في واشنطن عندما تحدد ما إذا كانت ستقبل النظر في القضية أم لا، وإذا قبلت القضية فستقرر أيضاً ما إذا كان ترمب شارك في تمرد، وما إذا كانت المادة الثالثة من التعديل الدستوري الـ 14 تنطبق عليه أم لا.
وبحسب أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا ريك هانسن فإن الأخطار المتعلقة بمصير ترمب تذكر الأميركيين بقضية جورج دبليو بوش ضد آل غور عام 2000، والتي كان فيها قرار المحكمة العليا في لب الانتخابات الرئاسية الأميركية، ولكن خلافاً لما حدث قبل نحو ربع قرن فإن عدم الاستقرار السياسي العام في الولايات المتحدة يجعل الوضع الآن أكثر خطورة بكثير.
وحتى قبل أن تقرر المحكمة العليا في واشنطن مصير الرئيس السابق، فسيُضيق توصل أكثر من 10 ولايات أخرى تنظر في قضايا مماثلة إلى النتيجة نفسها، الخناق على ترمب في تأمين ترشيح الحزب الجمهوري له والفوز خلال نوفمبر المقبل.
أصل الخلاف
وتحظر المادة الثالثة من التعديل الـ 14 على أي مسؤول حكومي فيدرالي مدني أو عسكري في الولايات المتحدة يؤدي اليمين كمسؤول فيدرالي، تقلد وظيفة حكومية فيدرالية إذا انضم إلى تمرد على الدستور، لكن قاضية المحكمة الجزئية في مقاطعة دنفر بولاية كولورادو سارة والاس وجدت أن تصرفات ترمب في أحداث السادس من يناير 2021 كانت بقصد التحريض على العنف السياسي وتوجيهه إلى مبنى الكابيتول بغرض تعطيل التصديق على الانتخابات، لكنها قضت بأن البند الثالث من التعديل الـ 14 ليس المقصود منه الرؤساء ولا ينطبق عليهم، لأنه يتحدث عن مناصب عدة ليس من بينها الرئاسة، ولأن اليمين الدستورية للرئيس تمت صياغتها بصورة مختلفة عن اليمين الخاصة بالمناصب الأخرى المذكورة في هذا البند.
غير أن المحكمة العليا للولاية التي نظرت الطعن في هذا الحكم بعد ذلك رأت أن القاضية والاس أخطأت، إذ اختلف غالبية قضاة المحكمة معها واعتبروا أن البند الثالث ينطبق على الرؤساء، استناداً إلى المسودات السابقة للتعديل الـ 14 التي ذكرت صراحة الرئاسة ولم تستبعدها، كما استشهدت المحكمة بواضع التعديل آنذاك عام 1868 وهو النائب صامويل ماكي الذي وصف الهدف من التعديل بأنه “منع الخونة من جميع السلطات السياسية في البلاد”.
وتوقعاً لمراجعة المحكمة العليا الأميركية فقد استشهد قرار المحكمة العليا في كولورادو برأي قانوني صدر عام 2012 لقاضي محكمة الاستئناف آنذاك نيل غورساتش الذي ألمح إلى المصلحة المشروعة للدولة في حماية نزاهة العملية السياسية وسيرها العملي، وهو ما يسمح لها باستبعاد المرشحين المحظورين دستورياً من تولي مناصب عبر صناديق الاقتراع.
التأثيرات المحتملة في كولورادو
وعلى رغم الضجة التي صاحبت الحكم الأخير فمن المرجح ألا يكون له تأثير مباشر كبير في انتخابات عام 2024، لأن هذه الولاية تحولت إلى تأييد الديمقراطيين خلال العقود الأخيرة، ولا تعتبر ولاية تنافسية في الانتخابات الرئاسية إذ لم يفز أي مرشح رئاسي جمهوري في كولورادو منذ عام 2004، عندما تفوق الرئيس السابق جورج دبليو بوش على جون كيري، لكن منذ ذلك الحين فاز الديمقراطيون بأربعة انتخابات رئاسية متتالية في الولاية مع أكبر هامش سجل عام 2020 عندما حصل بايدن على 55.4 في المئة من الأصوات وهزم ترمب.
كما أن الانتخابات التمهيدية في كولورادو ليست ذات أهمية خاصة، إذ من المقرر إجراء الانتخابات فيها يوم الخامس من مارس المقبل، في ما يسمى بيوم “الثلاثاء الكبير” الذي تجرى فيه الانتخابات التمهيدية في عشرات الولايات الأخرى، ومن المحتمل جداً ألا يحتاج إلى ولاية كولورادو لأن ترمب هو المرشح الأوفر حظاً لنيل ترشيح الحزب الجمهوري.
وإضافة إلى ذلك فإن استبعاد ترمب قد يكون عابراً، إذ يجوز للمحكمة العليا في الولايات المتحدة إلغاء هذا الحكم، كما أن حكم كولورادو ينص أيضاً على أن ترمب سيظل على بطاقة الاقتراع بعد الرابع من يناير إذا استأنف الأخير الحكم في المحكمة العليا الأميركية، وإذا لم تصدر المحكمة العليا قرارها سريعاً لتغيير الاقتراع فسيظل اسم ترمب موجوداً على بطاقة الاقتراع.
تداعيات أوسع
ومع ذلك فإن هناك تداعيات أوسع للحكم الصادر من المحكمة العليا في كولورادو لسبب واحد، وهو أنه تاريخي ولأن هذه الولاية أصبحت الولاية الأولى التي تعتبر ترمب غير مؤهل لخوض الانتخابات، مما يشجع القضاة في الولايات الأخرى على السير في طريق مماثل.
لكن الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري تبدو مختلفة، إذ تخشى الحملات الانتخابية للمرشحين المنافسين لترمب من أن يُنظر إلى حكم كولورادو على أنه تجاوز من جانب الديمقراطيين، مما يمكن أن يعزز تقدم الرئيس السابق الحالي بين الجمهوريين خلال المؤتمرات الحزبية المقررة في ولاية أيوا في الـ 15 من يناير 2024 وفي الانتخابات التمهيدية التالية بعد ذلك مباشرة، وهو ما يحتاج ترمب إليه حتى يثبت للمشككين داخل الحزب الجمهوري أن الهوة التي تفصله عن أقرب منافسيه لا تزال شاسعة ومن الصعب تجاوزها.
ومن المرجح بدرجة كبيرة أن يسمح الحكم لترمب بحشد المؤيدين له على خلفية الشعور بالاضطهاد من جانب مؤسسات الحكم، وهو ما أثبت فعاليته أثناء الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، إذ نجح ترمب طوال العام الحالي في تحويل الأحداث التي يمكن أن تغرق مرشحين آخرين بصورة ماهرة لمصلحته، إذ أقنع غالبية مؤيديه أن توجيه الاتهام إليه أربع مرات في 91 تهمة جنائية يهدد أسلوب حياتهم.
كما أتقن ترمب قواعد التعامل كضحية للديمقراطيين الذين يحاولون تحطيم فرصه في العودة للبيت الأبيض.
جمع الأموال
ومن خلال تعزيز هذه المشاعر جمع ترمب كثيراً من الأموال مع كل لائحة اتهام، وشجع المسؤولين الجمهوريين على الدفاع عنه، والتزم كثير منهم بذلك ومنهم الذين يخشون سيطرته على الناخبين الأساس في الحزب، بل إن خصومه الجمهوريين اضطروا إلى السير في خط واحد دعماً للرجل الذي يحاولون التغلب عليه، مثل نيكي هايلي ورون ديسانتس وفيفيك راماسوامي وكريس كريستي، فاعتبروا أنه لا يجب منع ترمب من أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة من قبل أي محكمة، لأن ذلك سيسبب كثيراً من الغضب.
ومنذ صدور الحكم الأخير في كولورادو أطلق فريق ترمب حملة لجمع الأموال من خلال ربط الحكم بمحاولات الديمقراطيين إقصاء الرئيس السابق، على حد قولهم، إذ قالت حملة ترمب الانتخابية إنها تتوقع أن يحاول الديمقراطيون إزالة ترمب من بطاقة الاقتراع في كل ولاية، وتحقيق السيطرة الكاملة على أميركا من خلال تزوير الانتخابات، بخاصة بعدما أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة تقدم ترمب بفارق نقطتين على الرئيس بايدن، ثم طلبت مساهمات مالية للمساعدة في الدفاع عن مكان ترمب في بطاقة الاقتراع.
رهان المحكمة العليا
وبغض النظر عن النتيجة النهائية فإن فريق ترمب حول الحكم الصادر أول من أمس الثلاثاء، 19 ديسمبر الحالي، إلى لحظة تحفيز أخرى، على أمل أن تكون تلك هي الطريقة التي يجعل بها خصومه الديمقراطيين يهزمون بها أنفسهم.
ويبدو أن ترمب يراهن في النهاية على موقف المحكمة العليا الأميركية في واشنطن التي ستنظر في استئنافه وقد تقف إلى جانبه، إذ تسيطر عليها غالبية محافظة بنسبة ستة إلى ثلاثة، ومن بينهم ثلاثة قضاة عينهم ترمب نفسه، لكن المحكمة تتعرض بالفعل إلى تدقيق وضغوط سياسية غير عادية، سواء في ما يتعلق بأحكامها أو أخلاق قضاتها، ويبقى أن نرى ماذا سيحدث خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.