“ماذا لو حقق بوتين الانتصار على أوكرانيا”؟ هذا العنوان يأتي على طرفي نقيض مع مقالة كتبها والتر راسل في صحيفة “وول ستريت جورنال” تحت عنوان “ماذا لو خسر بوتين حربه مع أوكرانيا”؟ ويشير ضمناً إلى أن انتصار كييف يمكن وصفه بأنه نهاية الصراع، وكأنما ستستعيد كل أراضيها، أو معظمها مستقلة عن موسكو ومتحالفة مع الغرب، بما لا بد أن يمثل “زلزالاً جيوسياسياً” في المنطقة، وما سيتمخض عنه عملياً من اختفاء روسيا التي عرفتها أوروبا وخافتها منذ القرن الـ18.
يتزامن ذلك في وقت تشير فيه مصادر إعلامية غربية إلى ما يراود كثيراً من الزعماء الأوروبيين من قلق ومخاوف من هزيمة أوكرانيا، ولعل هذا هو ما يؤكد أن الكاتب تعجل الأحداث واستبقها بنتائج تبدو في واقع الأمر على طرفي نقيض مما اختاره لمقالته من عنوان ومقدمات لما توصل إليه من نتائج مخالفة لما خلص إليه المتخصص الأميركي في الشؤون العسكرية والأمن القومي توبين هارشو، في تحليل آخر نشرته وكالة “بلومبرغ” وقال فيه إن “الحرب بين روسيا وأوكرانيا بلا منتصر، وعلى الغرب فتح قنوات اتصال مع موسكو”.
بوتين يتمسك بأهدافه في أوكرانيا
ولعل ما خلص إليه الخبيران الأميركيان والتر راسل وتوبين هارشو من نتائج في سياق ما طرحاه من مقدمات، يبدو مخالفاً لما يتردد في موسكو، ومنه ما جاء على لسان المتحدث الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف في تصريحاته إلى صحيفة “نيويورك تايمز”، وتشير في مجملها إلى عدم صحة ما جاء على لسان الخبيرين الأميركيين.
وقال بيسكوف إن الفرضية القائلة إن الزعيم الروسي أشار إلى استعداده للتفاوض على وقف إطلاق النار في أوكرانيا “غير صحيحة في مفهومها”، وكان الرئيس فلاديمير بوتين أشار في حواره السنوي المباشر مع مواطنيه إلى استعداده للمحادثات مع الجانب الأوكراني، شريطة ما طرحه ويطرحه انطلاقاً من التطورات على أرض الواقع.
ويعني حديث بوتين رفض موسكو التنازل عن أي مما حققته من مكاسب باستعادة أراض في جنوب شرقي أوكرانيا، إضافة إلى شبه جزيرة القرم التي جرى ضمها في عام 2014، فضلاً عما أعلنه الرئيس الروسي في مستهل “العملية العسكرية الروسية الخاصة” في أوكرانيا في الـ24 من فبراير 2022، حول أنها تستهدف نزع سلاح جارتها واجتثاث النازية والفاشية من أراضيها.
وكان بوتين أكد مراراً وتكراراً على استعداده للمحادثات، مشيراً إلى ما سبق وحققه الوفدان الروسي والأوكراني في إسطنبول من نتائج إيجابية في محادثاتهما التي أجرياها تحت رعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مارس وأبريل الماضيين. وهي المحادثات التي تراجع عنها الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، بإيعاز من رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون، كما كشف عن ذلك رئيس الوفد الأوكراني ديفيد أراخاميا في محادثات إسطنبول.
ومن هذا المنظور، قد يحق لنا طرح هذا الموضوع من زاوية ثالثة نختار لها عنوان “ماذا لو حقق بوتين النصر ضد أوكرانيا”، وذلك من واقع ما تحققه القوات الروسية من مكاسب بلغت حد استيلائها أو استعادتها لقرابة 20 في المئة من الأراضي الأوكرانية أو “الأراضي الروسية التاريخية” بحسب ما تقول موسكو، إضافة إلى ما في هذه الأراضي من ثروات بشرية وطبيعية في جنوب شرقي أوكرانيا المحاذية لبحر آزوف الذي تحول إلى بحيرة روسية خاصة، فضلاً عن شبه جزيرة القرم ومقاطعتي زابوروجيه وخيرسون.
وإذا أضفنا مدينة أوديسا التي قال بوتين أخيراً إنها “مدينة روسية” ومرفأ نيكولايف، فإننا نكون أمام تغيرات جيوسياسية تفرض واقعاً جديداً بكل مقتضياته التي قال بوتين معها إن أوكرانيا “بلد بلا مستقبل”.
وكان بوتين خلص في حواره المباشر مع مواطنيه خلال الأيام القليلة الماضية إلى هذا الاستنتاج بقوله “إن أوكرانيا بلا قاعدة صناعية وليس لديها ما تنتجه، وإنها بلد بلا أيديولوجية ولا أموال ولا شيء خاص بها، وهو ما يجعلها بلداً بلا مستقبل، في الوقت الذي تملك فيه روسيا كل ذلك”.
ولعل ما يدور في الساحة الروسية من تقديرات وأحكام يستبعد إلى حد كبير هزيمة قواتها، بل في المقابل يقترب من إعلان هزيمة القوات الأوكرانية، بعد فشلها في الهجوم المضاد الذي لطالما تحدث عنه زيلينسكي، كما أن ما تشهده الساحة الداخلية الروسية من استقرار، وما حققه الاقتصاد الروسي من نسبة نمو تقترب من أربعة في المئة، فضلاً عما تمتلكه موسكو من أسلحة حديثة وقاعدة صناعية عسكرية، يوفر لها اليد العليا في ساحة الحرب مع أوكرانيا، يجعل المرء بعيداً من توقع الهزيمة التي يحلم بها خصوم الكرملين في ساحة الوغي وميادين القتال.
كما أن ما يتردد على الجانب الآخر من شكوى تتعالى أصداؤها في كثير من الأرجاء، وما يتردد من لغط وخلافات بين رفاق التحالفات العسكرية والاقتصادية على الصعيد الغربي، وما يعرب عنه شركاء الولايات المتحدة من شكوك في موثوقية وعود واشنطن بالمساعدات الدفاعية، يستبعد توقعات الهزيمة لبوتين.
وما سبق لن يبعد الأذهان عن مشاهد الانسحاب المذل للقوات الأميركية من أفغانستان في عام 2021، كما أن ما يدور في الداخل الأميركي من “مشاغبات” وما يردده الرئيس السابق دونالد ترمب من تصريحات حول إمكان تحقيقه الفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، والوفاء بوعوده بالانسحاب من التحالفات الرئيسة، بما في ذلك حلف شمال الأطلسي، وإنهاء الحرب بما يتيسر معه إبرام صفقة مع بوتين في شأن أوكرانيا، كل ذلك يقول بضرورة استبعاد توقع هزيمة القوات الروسية.
إذاً فالشواهد السابقة تؤكد ما يتراءى في الأفق من احتمالات استعادة القوات الروسية اليد العليا، بعد تصحيح كثير من الأخطاء التي اعترفت بها القيادتان السياسية والعسكرية الروسية، وعادت لتصحيح مسار تحركات قواتها وتنظيم صفوفها.
تغيرات في مواقف الغرب
وعلى ضوء ما تحقق على الأرض، ومن منظور الملل الذي أصاب كثيرين في بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، واستهجان قيادات عدد من هذه البلدان واستيائهم من تكرار مطالب الرئيس الأوكراني من إمدادات عسكرية وأموال، فضلاً عما يحتدم من جدل وخلافات حول تقديم المساعدات العسكرية إلى كييف “بدأت الدول الأوروبية في النظر في عواقب هزيمة أوكرانيا المحتملة في الحرب مع روسيا، بما في ذلك إعادة تقييم الأخطار التي قد تشكلها موسكو على أعضاء الناتو في شرق أوروبا”، بحسب ما نشرته وكالة “بلومبرغ” الأميركية.
ويصاحب ذلك أيضاً ما جرى نشره من تورط كثيرين من القيادات الأوكرانية في الفساد بما جعل كييف أكثر الدول فساداً في العالم، بحسب تقديرات كثير من الهيئات المحلية العالمية، فضلاً عن الخلافات التي تحتدم بين الرئيس فولوديمير زيلينسكي وقائد قواته فاليري زالوغني، وفضيحة اكتشافه لأجهزة تنصت في مكتبه بما يكاد يعصف باستقرار الأوضاع في أوكرانيا.
ثم يضاف إلى ذلك الارتباك الذي تشهده الساحة الأوكرانية بعد إعلان الرئيس زيلينسكي تأجيل الانتخابات الرئاسية الأوكرانية، وما تؤكده نتائج قياس الرأي العام في البلاد حول تراجع شعبية الرئيس، في توقيت مواكب لتراجع الدعم العسكري وشح الإمدادات العسكرية الغربية.
وكانت “بلومبرغ” توقفت عند هذا الموضوع بقولها “إن القادة الأوروبيين يعبرون بالفعل علناً عن قلقهم”، واستشهدت على سبيل المثال بكلمات رئيس الوزراء الإيرلندي ليو فارادكار، الذي قال في اجتماع القمة الأخير لرؤساء بلدان الاتحاد الأوروبي، “إذا لم تتلق أوكرانيا الدعم من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة فإن بوتين سيحقق النصر”.
وتوقفت عند التغييرات التي طرأت على مفردات الإدارة الأميركية لتشير إلى أن الرئيس جو بايدن وعد بمساعدة أوكرانيا “طالما استطعنا”، في حين قال سابقاً إن واشنطن ستفعل ذلك “بقدر ما هو ضروري”، بحسب ما أشارت وكالة “بلومبرغ” الأميركية.
وكانت الدول الأوروبية جنحت نحو التفكير في عواقب هزيمة أوكرانيا المحتملة في “الحرب” مع روسيا، بما في ذلك إعادة تقييم الأخطار التي قد تشكلها موسكو على أعضاء الناتو في أوروبا الشرقية. وتناولت “بلومبرغ” ذلك، مستشهدة بمصادر مطلعة على مسار هذه المناقشات، بحسب ما أشارت. وطرحت ذلك تحت عنوان “ماذا لو فاز بوتين؟ حلفاء الولايات المتحدة يخشون الهزيمة، في حين يتم إيقاف المساعدة لأوكرانيا”.
وها هو رئيس الحكومة المجرية فيكتور أوربان وبما عرف عنه من صراحة في مواجهة الواقع الأوكراني يقترح على الاتحاد الأوروبي الامتناع عن مساعدة أوكرانيا على مدى السنوات الخمس المقبلة.
وقال أوربان إن المجر ستستخدم دائماً “فرملة اليد عندما تتأثر المصالح الوطنية”، وأضاف أن “انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي سيكلف الدول الأعضاء 150-190 ملياراً يورو. وإذا انضمت كييف إلى اليورو، فسيسحق اقتصاد بلدان هذا الاتحاد، إذ ستطلب كييف تلقي المساعدة بالمبلغ الذي تتلقاه الآن بلدان وسط أوروبا، بما في ذلك المجر”.
بوتين.. ماذا بعد؟
عل أن ذلك كله لا يعني أن تحقيق الحلم المنشود وإحراز النصر الحاسم للقوات الروسية بات قاب قوسين أو أدنى، وذلك ما يدركه بوتين قبل الآخرين على جانبي الساحة.
وما نستشفه مما يقوله بوتين حول إن عملية حل النزاع في أوكرانيا لن تكون سهلة، ولكن “بطريقة أو بأخرى” سيتعين على جميع المشاركين “الاتفاق مع الحقائق التي تتطور على الأرض”، و”سيتعين عليهم التوصل إلى اتفاق” يعني كثيراً.
وكان الرئيس الروسي أشار في اجتماعه مع أعضاء مجلس حقوق الإنسان، معلقاً على “العملية الخاصة” في أوكرانيا، إلى أن “عملية حل النزاع في كييف ستكون طويلة، ولن تكون سهلة، وستتطلب وقتاً معيناً، لكن في النهاية، سيتعين على جميع المشاركين في العملية “الاتفاق مع الحقائق التي تتطور على الأرض”.
ونقلت وكالة “إنترفاكس” ما قاله بوتين حول أن “العملية العسكرية الروسية الخاصة” “تسير كالمعتاد، وكل شيء مستقر هناك، ولا توجد أسئلة أو مشكلات هناك اليوم”. وأضاف أن موسكو تأخرت في تحديد موقفها في شأن أوكرانيا، على أمل حل الصراع في إطار “اتفاقات مينسك للسلام”.
وقال أيضاً إنه يعتبر كلام المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل بأن اتفاقات مينسك “محاولة لمنح كييف الوقت اللازم لتعزيز قدرات القوات الأوكرانية المسلحة، “دليلاً على صحة موقف موسكو بشن “عملية خاصة”.
وذلك موقف شاركه فيه آخرون من المعلقين الغربيين، ومنهم الخبير الاستراتيجي توبين هارشو الذي قال إن “تاريخ الحروب يقول إن أية حرب استمرت أكثر من عام، ستستمر لعقد كامل، بينما يرى المحلل الاستراتيجي صامويل شارب أن السؤال عن الجانب الذي يلعب الوقت لصالحه بالغ الأهمية، وفي الوقت نفسه بالغ الصعوبة، لأن كل شيء يتوقف على الفترة الزمنية المقصودة. فالفترة من 12 إلى 18 شهراً قد تخدم طرفاً في الصراع، لكن عندما تمتد إلى ما بين 18 و24 شهراً، تصبح ضد هذا الطرف.
وثمة من يتوقع احتمالات تجميد الصراع بين الجانبين الروسي والأوكراني، في وقت يستبعد فيه كثيرون في روسيا ذلك على وقع ما تحرزه القوات الروسية، من تقدم نسبي على طول جبهات القتال.
أما الأقرب إلى الواقع قد يكون ما قاله بوتين حول “أن عملية حل النزاع في أوكرانيا لن تكون سهلة”، ولكن “بطريقة أو بأخرى” سيتعين على جميع المشاركين “الاتفاق مع الحقائق التي تتطور على الأرض” و”سيتعين عليهم التوصل إلى اتفاق”، كما أشرنا عاليه. أما عن جوهر هذ الاتفاق، فهو ما ستكشف عنه الأشهر القليلة المقبلة.