عندما قررت “وكالة الاستخبارات المركزية” الأميركية (سي آي أي) CIA استعادة آلاف من صواريخ “ستينغر” من أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي – خشية وقوعها في يد إيران – لم تكن تعرف سوى أمير حرب قوي واحد يمكنها الوثوق فيه لتقديم تلك المساعدة.
فقد أجرى عملاء الولايات المتحدة محادثات سرية مع البطل الأسطوري للمقاومة الأفغانية ضد السوفيات وحركة “طالبان”، أحمد شاه مسعود قائد حرب العصابات، الذي كان قد حذر الغرب من التهديد الذي يشكله تنظيم “القاعدة” وزعيمه آنذاك أسامة بن لادن، قبل أشهر من وقوع أحداث الـ11 من سبتمبر في الولايات المتحدة.
وقد قتل مسعود قبل يومين من الهجوم على “مركز التجارة العالمي” في نيويورك، عندما دخل شخصان من الانتحاريين التابعين لبن لادن إلى منزله في معقل “المجاهدين” في وادي بانجشير، ادعيا بأنهما صحافيان، وفجرا نفسيهما. ومنذ ذلك الحين أصبح ابنه أحمد مسعود، الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 12 سنة، الوريث بلا منازع للمقاومة الداخلية في أفغانستان ضد الإرهاب الأصولي المتطرف.
ويقول أحد مساعديه المقربين منه إنه “لم يختر أن يصبح منقذاً لأفغانستان، بل ولد للقيام بهذا الدور. فالمهمة جاءت إليه وطرقت بابه”. قال ذلك في وقت كان فيه شابان مسلحان يتوليان حراسة مسكن مسعود البالغ من العمر الآن 34 سنة في إحدى الدول التي التزمت صحيفة “اندبندنت” عدم الكشف عن اسمها.
ونظراً إلى الظروف التي أحاطت بمقتل والده، فليس من المستغرب أن تجرى هذه المقابلة النادرة مع مسعود الابن في ظل هذه الدرجة العالية من السرية التامة والتدقيقات الأمنية المشددة.
بعد مرور نحو 22 عاماً على اغتيال الأب، عادت حركة “طالبان” إلى السيطرة على أفغانستان. واستولت الجماعة المسلحة على العاصمة كابل في الـ15 من أغسطس عام 2021، بعد انسحاب قوات التحالف الغربي التي غزت البلاد على أثر أحداث الـ11 من سبتمبر، وعلى رغم أن وادي بانجشير – وهو أحد أشرس جيوب المقاومة – قد صمد لأسابيع عدة، فإن مسعود الابن فر في نهاية المطاف إلى المنفى في شهر سبتمبر من العام نفسه.
يحمل زعيم “جبهة المقاومة الوطنية” الأفغانية الذي يجلس وفي حضنه قبعته “الباكول” الصوفية المميزة – شبهاً مذهلاً بوالده الراحل. إلا أنه اعتمد مظهر حليق الذقن، وارتدى ملابس أنيقة ليبدو أقرب إلى دبلوماسي منه إلى شخصية قائد عسكري، لكنه أبقى على دراية تامة ومشاركة نشطة في عمليات حرب العصابات الجريئة التي لا تزال تقوم بها قواته في الممرات الجبلية والوديان، في المناطق الشمالية والغربية للبلاد.
مضى حتى الآن أكثر من عام على سيطرة “جبهة المقاومة الوطنية” على أراض في أفغانستان، لكن مسعود يؤكد أن مقاتليه ينقلون المعركة إلى عقر دار “طالبان” ومعاقلها في نحو 20 مقاطعة من البلاد، البالغ مجموعها 34، ولا سيما في المناطق الشمالية والغربية.
يقول أحد مساعديه إن “جبهة المقاومة الوطنية” أجهزت على مئات من مقاتلي حركة “طالبان” منذ أغسطس عام 2021، وإن حرب المقاومة لا تزال مستمرة على رغم تحول اهتمام المجتمع الدولي إلى صراعات في أماكن أخرى من العام، كالحربين الدائرتين في أوكرانيا وغزة.
ويضيف المساعد المقرب من أحمد مسعود: “إننا ننظم ما بين 15 و20 عملية عسكرية شهرياً في المناطق التي تسيطر عليها حركة ’طالبان‘، وفي كل عملية، نتمكن من قتل ما بين ثلاثة وثمانية من إرهابييها”.
ولأسباب مرتبطة بالعمليات، لم يشأ مسعود الخوض في تفاصيل متعلقة بمراكز الضربات التي توجهها قواته إلى “طالبان” أو زمانها بالتحديد. وقال “لن أتحدث بالتأكيد في المقابلة عما تقوم به قواتي، أو بما سيراه العالم منها في الأيام المقبلة. لكن دعونا نقول فقط إن ’جبهة المقاومة الوطنية‘ تدافع عن شعبنا الأفغاني، وتمنحهم فرصة القتال والأمل في الدفاع عن أنفسهم”.
وأضاف “إن حملتنا العسكرية تخدم غرضاً دفاعياً ضد نهج الطغيان والهمجية والإرهاب الذي تفرضه علينا حركة ’طالبان‘. فالمسؤولية عن الوضع الكارثي الراهن في أفغانستان تقع بصورة مباشرة على عاتق ’طالبان‘، من ثم لم يعد أمامنا من خيار سوى الدفاع عن أنفسنا بأي وسيلة متاحة لنا”.
وفي وقت يشكك فيه الخبراء في قدرة أحمد مسعود بمفرده على تقويض نفوذ حركة “طالبان”، وإضعاف قبضتها على السلطة في البلاد، إلا أنه في ظل عدم وجود احتمال واقعي لعودة ميدانية لقوات التحالف الدولي، ينظر إلى “جبهة المقاومة الوطنية” على أنها الرهان الأفضل لمواجهة النظام الإسلامي في أفغانستان. وفي وقت سابق من هذا الشهر، تمكن مسعود من عقد مؤتمر في فيينا جمع خلاله عدداً من القوى المتحالفة بهدف إنشاء تكتل موحد ضد “طالبان”.
الخطوة التالية بعد ذلك تتمثل في حشد الدعم الدولي، لكن مسعود يقول إنه لم يعد يتوقع أن يأتي ذلك على شكل دعم عسكري أو مالي. ولا يزال هو وغيره من القادة المناهضين لحركة “طالبان” يشعرون بامتعاض كبير من قرار الغرب الانسحاب من أفغانستان في عام 2021، معتبرين أنه كان أشبه بخيانة. إلا أنه في الوقت الراهن، يسعون إلى اعتراف القوى العالمية الكبرى بالمقاومة، ورفض منح نظام “طالبان” الاعتراف الدولي الذي يتوق إليه بقوة.
ويصر على القول: “لا نريد مساعدات عسكرية أو أموالاً من الغرب. لكن من أجل مصلحة الديمقراطية، عليهم أن يساعدوا أفغانستان على تشكيل حكومة شرعية. ينبغي على العالم ألا يتساهل أو يساوم (مع طالبان). يتعين على كل من يتابع الأحداث في أفغانستان الآن أن يقف بقوة إلى جانبنا”.
ويعرب أحمد مسعود عن حزنه العميق إزاء المأزق الذي وجدت نفسها فيه قواته وقوات أفغانية أخرى كانت قد ساندت الولايات المتحدة و”حلف شمال الأطلسي” “(ناتو) كجنود وطيارين، وقدمت دعماً لوجيستياً لوحداتها. وقد اضطر أفرادها إما إلى الفرار من البلاد أو مواجهة الاضطهاد والموت على يد “طالبان” التي أصبحت سلطة الأمر الواقع على الأرض.
ويبدي في المقابل حرصاً على عدم الذهاب بعيداً في إلقاء اللوم على انسحاب قوات التحالف الغربي من بلاده، لكنه يصف فكرة توسط الولايات المتحدة مع “طالبان” في مسألة “العفو” المتعلق بمقاتلين محليين ومسؤولين حكوميين مخلوعين خلفتهم القوات الدولية وراءها، بأنها ليست أكثر من “محض كذب”.
ويؤكد أن “استهداف مقاتلي ’جبهة المقاومة الوطنية‘ مستمر بلا هوادة من جانب ’طالبان‘، وقد قضى آلاف من الأشخاص نحبهم في أعمال عنف قامت بها الحركة. وبينما نجحنا في تحييد عدد أكبر بكثير من مسلحيها، فإن التحدي لا يزال قائماً بحيث ما زال آلاف منهم داخل أفغانستان”.
يشار إلى أنه حتى الآن، لم تعترف أي من دول العالم رسمياً بـ”طالبان” باعتبارها الحاكم الشرعي لأفغانستان – وهو الموقف الذي تلتزمه منظمة الأمم المتحدة. لكن التضامن في إدانة إطاحة الحركة بالقوة بحكومة كابل التي كانت منتخبة ديمقراطياً، بدأ يفسح المجال أمام البراغماتية، مع شروع قوى إقليمية – بما فيها الصين والهند – بإعادة فتح خطوط تواصل مع هذا البلد الذي يكتسي أهمية استراتيجية للمنطقة.
في غضون ذلك، يجد زعماء مؤيدون للديمقراطية مثل أحمد مسعود صعوبة في فهم كيف يمكن للعالم والغرب خصوصاً، أن يبقيا صامتين أمام سيطرة حركة “طالبان” على أفغانستان، بعد 20 عاماً من القتال الميداني النشط. ويرى أن هذا الموقف يعد مؤشراً إلى أن العالم بات الآن “موافقاً على ما يحدث في أفغانستان”.
ويقر بهذا الواقع قائلاً: “نعم، لم تعد أفغانستان تشكل أولوية بالنسبة إلى الغرب. وفي وقت أتمنى فيه (أيضاً) السلام للأوكرانيين ولشعوب الشرق الأوسط (إلا أنني) آمل في أن يشمل السلام أفغانستان أيضاً”.
ويتابع: “أريد أن أسأل عما إذا كانت إدارة (الرئيس الأميركي جو) بايدن توافق على قيام مجموعة عسكرية باقتحام مقار الحكومة في الولايات المتحدة، وانتزاع السلطة من إدارة ديمقراطية. وفي وقت لم يكونوا فيه موافقين على أعمال الشغب التي حدثت في مبنى الكابيتول، لا أفهم كيف يوافقون على ما قامت به ’طالبان‘؟”.
وفي ما يتعلق بمستقبله، يكشف مسعود عن الصراع الداخلي الذي يبقيه مستيقظاً في الليل للتفكير في طريقة مواصلة الإرث الذي خلفه والده، والتغلب على حركة “طالبان”، وإحلال السلام في أفغانستان. ويقول: “أحياناً أتمنى لو لم يكن لديَّ مثل هذا الحب العميق لشعب أفغانستان، لأنني حينها أستطيع أن أنأى بنفسي عن هذه الحرب. لكن حبي لهم لا حدود له”.
ويؤكد أحمد مسعود – الذي تلقى تعليمه في كل من إيران والمملكة المتحدة – أنه إذا تمكن من هزيمة “طالبان”، فإنه لا يرغب في قيادة حكومة مدنية. ويرى أنه “سيكون من الأفضل أن تتولى امرأة قيادة أفغانستان، نظراً إلى المعاناة التي تواجهها النساء في الوقت الراهن في ظل نظام ’طالبان‘ الذي يكن الكره للنساء”.
وقال “آمل في ألا أكون في السلطة. فأفراد الشعب الأفغاني قادرون على أن يختاروا شخصية أكثر كفاءة مني لتولي المسؤولية – من المفضل أن تكون امرأة – وبذلك يتركونني أعيش بسلام”.
وفي إطار آخر، كشف عن أنه أصبح أباً جديداً لطفلة عمرها ستة أشهر، وأن النسل الأول في الجيل الجديد لآل مسعود هي فتاة. ويأمل في ألا تكون تجربتها في طفولتها كتلك التي عاشها هو حين كان يرافق والده، بصفته وريث أحد أمراء الحرب، عندما كان يجري مقابلات من طائرات مروحية عسكرية.
وخلص إلى القول: “أريد أن أكون مدرساً في إحدى الجامعات. أرغب بقوة في أن أصبح أستاذاً وهذا هو هدفي الشخصي أو طموحي. وأريد كذلك تمضية مزيد من الوقت مع ابنتي”.