منذ أن بدأت الحرب الإسرائيلية على غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لم تتوان إسرائيل عن إخراج كل ما في جعبتها لمواجهة “حماس”، وكرست من أجل ذلك نحو نصف مليون جندي وأحدث ما في ترسانتها العسكرية من قنابل وطائرات وصواريخ موجهة وخارقة للتحصينات، أدت بعد نحو ثلاثة أشهر إلى تدمير خمس المباني في قطاع غزة التي تقدرها الأمم المتحدة بـ40 ألف مبنى، ومقتل أكثر من 22 ألف فلسطيني وإصابة 58 ألفاً آخرين.
الجروح والحروق الغامضة والعميقة التي طاولت آلاف المدنيين وتركزت على الجزء السفلي من أجسادهم وتسببت في قطع أطراف بعضهم، أثارت التساؤلات وأشعلت التكهنات والتحليلات حول حقيقة استخدام إسرائيل أسلحة محرمة دولياً خلال الحرب على غزة، فبعض شظايا القنابل التي ألقيت على القطاع واخترقت أجساد المصابين أحدثت انفجارات بداخلها، وحروقاً فظيعة تسببت في إذابة الجلد وحدوث انتفاخات غريبة وتسمم في الجسم، وما لاحظه الأطباء في الآلاف من أجساد القتلى والجرحى الغزيين كثرة الشظايا الشفافة التي لا تظهر في صور الأشعة.
قنابل فسفورية
وزارة الصحة الفلسطينية في غزة أعدت تقريراً حول هذه الإصابات المرعبة والغريبة، وتواصلت مع المنظمات الدولية لمعرفة طبيعة السلاح المستخدم لإحداث تلك الحروق، وضرورة إيجاد حلول علاجية لها. وبعد تحقيقات أجرتها منظمة “هيومن رايتس ووتش”، لفيديوهات جرى تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، أكدت المنظمة استخدام الجيش الإسرائيلي قنابل فسفورية خلال قصفه قطاع غزة، وعلى مواقع عند الحدود اللبنانية.
وأكد الجراح البريطاني فلسطيني الأصل غسان أبو ستة، الذي يوجد في غزة خلال الحرب أن “نحو نصف مصابي الحروق كانوا أطفالاً، وقرابة الـ1000 طفل منهم مبتورو الأطراف”، لافتاً إلى أن بعض الحروق تتوغل لتصل إلى عظام الضحايا، ووفقاً لتقديراته فإن “إسرائيل استخدمت بالفعل قنابل الفوسفور الأبيض خلال الحرب الحالية”.
وفق متخصصين، يؤدي انفجار القنبلة الفسفورية عند ملامسته الأوكسجين إلى التسبب في حروق شديدة، غالباً ما تصل إلى العظام، ويكون شفاؤها بطيئاً، وقد تتطور إلى التهابات وفي بعض الأحيان تكون قاتلة، قد تتسبب أيضاً في تلف للجهاز التنفسي وفشل بعض أعضاء الجسم، أما الأشخاص الناجون من الإصابات الأولية فغالباً ما تستمر معاناتهم مدى الحياة لأن استنشاق دخان هذه القذائف يسبب السعال ويهيج القصبة الهوائية والرئة ويؤدي إلى جروح في الفم وكسر عظمة الفك. وبحسب القوانين والمعاهدات الدولية يعتبر الفوسفور الأبيض سلاحاً حارقاً بموجب البروتوكول الثالث لاتفاق حظر استخدام أسلحة تقليدية يحظر استخدامها ضد الأهداف العسكرية الواقعة بين المدنيين، فناتج هذه القنابل لا يفرق بين الجنود المشاركين في الحرب والمدنيين، ويمكن أن يقتل على مساحة واسعة من في داخل المدن وبين المباني السكنية، وكان الجيش الإسرائيلي قد التزم عام 2013 عدم استخدام هذه القنابل في المناطق المأهولة بالسكان.
قنابل “الدايم”
إلى جانب تلك التحقيقات والتقديرات، لاحظت منظمة أطباء العالم الفرنسية خطورة الإصابات الناجمة عن القصف الإسرائيلي على غزة أخيراً. وقالت إن “الحالات تشبه الإصابات التي تتسبب في ها القنابل العنقودية الخطرة، لأنها تحوي عبوات صغيرة عالية الانفجار يمكن أن تنفجر بعد الهجوم”.
وأكدت وزارة الصحة الفلسطينية وفي إطار متابعتها الإصابات الغربية والجديدة أن إسرائيل استخدمت قنابل “الدايم” التي تحوي معدن “التنغستن” المسبب لبتر الأطراف ضد المدنيين. وبحسب خبراء، فإن قنبلة “الدايم” تتسبب في تمزيق الأنسجة البشرية بصورة مختلفة تماماً عن الشظايا المعروفة، فهي تقتل وتجرح كل من هم في دائرة قطرها المقدرة 60 متراً، وتؤدي الإصابة بها إلى نمط واضح من بتر الأطراف بخاصة السفلية، إذ تقوم بقطع رجل الضحية بطريقة بشعة، تاركة علامات على الحرارة والحروق قريباً من خط البتر، وكأن منشاراً آلياً استخدم لقطع العظام، كما أن مادة “التنغستن” التي تلامس المناطق المبتورة تنتقل وتتسرب إلى الجسم، مما يؤدي إلى الإصابة بأنواع من السرطانات. وكانت مجموعة من العلماء الإيطاليين المنتسبين إلى لجنة مراقبة أبحاث الأسلحة الجديدة قد أعلنت أن جروح هذه النوعية من القنابل غير قابلة للعلاج لأن مسحوق “التنغستن” لا يمكن إزالته جراحياً.
ووفقاً لمكتب الإعلام الحكومي في غزة، استخدم الجيش الإسرائيلي منذ بدء الحرب على القطاع، إضافة إلى قنابل الفوسفور الأبيض وقنابل “جدام JDAM” الذكية، قنابل خارقة للحصون من نوع BLU-113، وBLU-109، و(SDBS)، إلى جانب القنابل الأميركية من نوع GBU-28، وصواريخ من نوع “هالبر”، والقنابل الموجهة بنظام GPS بهدف تدمير البنية التحتية. وقدر بيان للمكتب الحكومي أن أكثر من 65 ألف طن من المتفجرات ألقيت على منازل المدنيين، وهو ما يقارب ثلاث قنابل نووية كالتي ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية.
قنابل غبية
مدير مكتب الإعلام الحكومي في غزة إسماعيل الثوابتة، قال إن ثلثي القنابل والصواريخ التي ألقتها الطائرات الإسرائيلية على محافظات غزة هي قنابل غير موجهة وغير دقيقة أو ما تعرف باسم “القنابل الغبية”، في إشارة إلى تعمد إسرائيل القتل العشوائي وغير المبرر والمخالف للقانون الدولي وللاتفاقات الدولية. ويكشف تقرير لصحيفة “غارديان” البريطانية عن أن إسرائيل اعتمدت بصورة كبيرة على هذه الذخائر غير الموجهة ذات الدقة المنخفضة، في حربها على غزة، التي يقول متخصصو الأسلحة إنها قوضت تعهدات الجيش الإسرائيلي بتقليل الخسائر في صفوف المدنيين.
ولم تنكر إسرائيل استخدامها هذا النوع من القنابل الغبية، بدليل أنها شاركت بشكل متكرر صور قواتها الجوية على وسائل التواصل الاجتماعي خلال إلقائها، مثل قذائف M117. ووفق ما أفادت شبكة “سي أن أن” عن مصادر استخباراتية، في الـ14 من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فليس من الممكن التأكد من مدى تكرار استخدام قذائف M117في غزة أو طريقة نشرها، لكن ما بين 40 و45 في المئة من الذخائر التي استخدمتها إسرائيل كانت غير موجهة.
وبينت صحيفة “واشنطن بوست” أن إسرائيل خلال أقل من أسبوع أسقطت قنابل على غزة تتساوى مع ما أسقطته الولايات المتحدة على أفغانستان خلال عام، الذي بلغ قرابة 7423 قنبلة، بينما أسقط سلاح الجو الإسرائيلي 6 آلاف قنبلة في غزة على مدار ستة أيام فقط. وذكرت الصحيفة الأميركية أخيراً أن إسرائيل استخدمت الفوسفور الأبيض الذي تسلمته من الولايات المتحدة في غارة أخيرة على جنوب لبنان، مشيرة إلى أن عديداً من المدنيين أصيبوا في الحادثة وأن منظمة العفو الدولية قالت إنه يجب التحقيق فيها باعتبارها جريمة حرب.
انتهاكات خطرة
وعلى رغم القلق الذي أبدته الولايات المتحدة في شأن استخدام إسرائيل الفوسفور الأبيض وما ورد في “واشنطن بوست”، قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي إن “الفوسفور الأبيض له منفعة عسكرية مشروعة عند استخدامه للإضاءة وإنتاج ستائر الدخان لإخفاء حركة القوات”.
بدورها، قالت وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية، في بيان، إن إسرائيل تستخدم الأسلحة “الفوسفورية والعنقودية وغيرها” في غزة، مؤكدة أن الذخائر التي تحوي الفوسفور هي أسلحة حارقة يحظر استعمالها ضد مدنيين.
في حين أشار المرصد الأورومتوسطي إلى أنه في حال ثبوت استخدام إسرائيل هذا النوع من الأسلحة سيمثل انتهاكاً خطراً لحقوق المدنيين في قطاع غزة، إذ يناقض المادة “32” من اتفاقية جنيف الرابعة القاضية بحظر “جميع التدابير التي من شأنها أن تسبب معاناة بدنية أو إبادة للأشخاص” المحميين الموجودين تحت “سلطة الاحتلال”. وأضاف المرصد أن المادة” 35″ من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقات جنيف، نصت على أن “حق أطراف أي نزاع مسلح في اختيار أساليب ووسائل القتال ليس حقاً مفتوحاً، بل له ضوابط وقيود”. وتحظر الاتفاقية استخدام الأسلحة والقذائف والمواد ووسائل القتال التي من شأنها إحداث إصابات أو آلام لا مبرر لها. ويعتقد مراقبون أن إسرائيل انتهكت هذه الاتفاقات بصورة كبيرة باستخدامها الأسلحة غير التقليدية والقذائف المسمارية.
أسلحة قانونية
في المقابل، رد الجيش الإسرائيلي على تلك الاتهامات بأنه “يستخدم الأسلحة القانونية فقط” وأن “قذائف الدخان الرئيسة التي يستخدمها الجيش لا تحوي الفوسفور الأبيض”. وقال في بيان “كما هو الحال مع عديد من الجيوش الغربية يمتلك الجيش الإسرائيلي قذائف دخان تحوي الفسفور الأبيض، وهي قانونية وفقاً للقانون الدولي، واختيار استخدامها يتأثر بالاعتبارات التشغيلية والتوافر مقارنة بالبدائل”، وأضاف “هذه القذائف مخصصة للستائر الدخانية وليس للهجوم أو الإشعال، ولا يتم تعريفها قانونياً على أنها أسلحة حارقة”، مؤكداً أنه بموجب إجراءاته الحالية لا يجوز استخدام قذائف الفوسفور الأبيض في المناطق الحضرية “إلا في حالات استثنائية معينة”.
من جهته أكد المحلل العسكري اللواء واصف عريقات “أن استخدام إسرائيل أياً من الأسلحة المحرمة بموجب القوانين الدولية يتطلب الضغط من أجل إدخال لجنة تحقيق دولية لفحص مخلفات القذائف والصواريخ ومعاينة الجرحى، ونسبة السموم في التربة، ومعاينة أثر هذه الأسلحة بالأدلة القاطعة من الميدان”.
وأضاف “الحرب أتاحت فرصة ذهبية لإسرائيل بتجربة أسلحتها الجديدة وتثبيت فعاليتها بالصورة والصوت من أجل تسويقها لدى الدول التي تشتري السلاح من إسرائيل بصورة رئيسة”. هذا ما يؤكده الكاتب الألماني أنتوني لوينشتاين في كتابه “المختبر الفلسطيني”، الذي ذكر فيه أن إسرائيل سوقت لهذه الأسلحة على أنها “مجربة في ميدان المعركة”، وأن غزة على وجه الخصوص، أشبه بـ”مختبر مفتوح” للأسلحة الإسرائيلية، التي جعلت شركات السلاح الإسرائيلية من بين أكثر الشركات تحقيقاً للمكاسب في العالم.
وعلى رغم نفي إسرائيل مراراً تلك الاتهامات، ذهب مقال في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية أبعد من ذلك، ففي ذروة واحدة من الحروب على غزة أشارت إلى أن “حروب غزة بقرة حلوب بالنسبة إلى صانعي الأسلحة الإسرائيليين”. وبحسب قول المتخصص العسكري الأميركي بيتر أليكس “حرب غزة تعد أهم دعاية مجانية للذخائر الإسرائيلية والأميركية، وإسرائيل تستغل كونها عاشر مصدر للسلاح للتأثير في مواقف الدول الأخرى تجاه القضية الفلسطينية”.