انعكس رفض قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان لأي صلح أو اتفاق مع قوات “الدعم السريع” وتعهده مواصلة الحرب حتى نهايتها، على وتيرة المواجهات العسكرية بين الطرفين بتصاعدها بشكل عنيف في جبهات القتال المختلفة، فضلاً عما أحدثه من توتر وسط بعض القوى المدنية وقطاعات مختلفة من السودانيين الذين يتطلعون لإنهاء هذه الحرب التي شارفت على شهرها التاسع.
ويعتقد كثيرون أن لقاء قائدي الجيش و”الدعم السريع” المقترح من “إيغاد” خلال هذا الشهر بات في حكم المجهول بسبب الاتهامات والملاسنات التي صدرت من القائدين تجاه بعضهما، فبينما شن حميدتي هجوماً على البرهان واصفاً إياه بالمتردد والمراوغ والمتماهي مع أنصار النظام السابق من الإسلاميين، قال الأخير في خطاب له أمام ضباط وجنود بقاعدة جبيت العسكرية، الجمعة، “لن نتصالح أو نتفق مع من يقتل ويغتصب وينهب ويخرب ويدمر، ولن يجد منا أي شرعية أو اعتراف” في إشارة إلى قائد “الدعم السريع”.
وحث حميدتي السودانيين بأن يتعلموا من تجربة رواندا التي شهدت إبادة جماعية بقتل ما لا يقل عن مليون شخص عام 1994، مؤكداً أن “الحرب التي تشهدها بلادنا اليوم يجب أن تكون آخر الحروب وأن نعمل على صناعة سلام عادل ومستدام لأنفسنا ولمستقبل أجيالنا القادمة”.
وقال قائد “الدعم السريع” في حسابه بمنصة “إكس”، “زرت اليوم المتحف التذكاري للإبادة الجماعية بالعاصمة الرواندية كيغالي، وهو أحد أهم معالم التاريخ الإنساني حيث يقف شاهداً على حقبة من الجراحات والمآسي عاشتها رواندا وفقدت خلالها مئات الآلاف من الضحايا بسبب العنصرية والكراهية ومحاولات احتكار السلطة بالقوة والوصايا على الشعب”.
وأضاف “الروانديون وحدهم واجهوا مشكلاتهم بشجاعة ووضعوا لها حلولاً جذرية من خلال تجربة (الكجاجة) التي تشابه (الجودية) في السودان، هذه الممارسة رسخت مبادئ العدالة الانتقالية في المجتمع وحققت مفهوم عدم الإفلات من العقاب وغيَّرت مجرى تاريخه من التفرقة إلى الوحدة ومن الكراهية إلى المحبة ومن الحرب إلى السلام والتنمية المستدامة”.
وواصل دقلو “يجب علينا أن نتعلم من تجارب الآخرين ونرسم بأيدينا معالم الطريق الذي يقودنا إلى بر الأمان”.
اجتماعات مباشرة
في السياق، طلبت تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” برئاسة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك من الحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال) بقيادة عبدالعزيز الحلو، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور، والحزب الشيوعي السوداني، وحزب البعث العربي الاشتراكي (الأصل)، عقد اجتماعات مباشرة وعاجلة معهم لبحث سبل وقف وإنهاء الحرب وبناء أوسع جبهة مدنية ديمقراطية تتصدى لهذه المهمة.
وأوضحت التنسيقية في بيان أنها “لن تدخر جهداً من أجل وقف وإنهاء الحرب في البلاد، والتواصل مع كل القوى الثورية والوطنية الساعية لوقف الحرب وللتحول المدني الديمقراطي، وسنسارع الخطى لطي هذه الصفحة الكئيبة من تاريخ البلاد، ولاستشراف مستقبل أفضل للسودان تظلله قيم الوحدة والسلام والعدالة والحرية والرفاه لكل أبنائه”.
وقال رئيس حزب المؤتمر السوداني عمر الدقير، إن الإعلان الذي وقعته تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية مع “الدعم السريع” أخيراً، جاء بموجب دعوة موحدة، شكلاً ومضموناً، وجهتها التنسيقية لقيادة طرفي الحرب، حيث استجابت لها قيادة “الدعم السريع”.
وتابع “نأمل في استجابة قيادة الجيش لدعوتنا والجلوس معاً من أجل الدفع باتجاه وقف إطلاق النار باعتباره المطلب الأكثر إلحاحاً، الذي لن يتحقق من دون اتفاق الطرفين”.
وأوضح الدقير أن “إعلان أديس أبابا لا يمثل وثيقة وساطة أو اصطفافاً ثنائياً، بل هو بداية تواصل مع أطراف أخرى للبحث عن مخرج لإيقاف نزف الدم والتدمير في الوطن ومعالجة الكارثة الإنسانية التي تعصف بأهله، ولإبعاد البلاد عن منزلق الانهيار الكامل”.
تصاعد القتال
ميدانياً صعد الجيش السوداني عبر طيرانه الحربي، أمس السبت، عملياته القتالية، حيث شن غارات جوية مكثفة استهدفت مواقع “الدعم السريع” في ولايتي الخرطوم وجنوب كردفان مما أوقع قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، فيما تداول ناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي فيديو لإسقاط طائرة حربية بشرق النيل من قبل قوات “الدعم السريع”، حيث ظلت الطائرات المسيرة والحربية تحلق طوال اليوم في سماء أحياء الخرطوم شرق وجنوب الحزام، ومناطق بشرق النيل شملت الجريف شرق والحاج يوسف مستهدفة مواقع وتمركزات “الدعم السريع” بالبراميل المتفجرة، وردت الأخيرة بالمضادات الأرضية إلى جانب استخدام مدافع الهاون التي استهدفت محيط القيادة العامة للجيش بوسط العاصمة وسلاح الإشارة ببحري.
وأكد ناشطون في منطقة شرقي النيل وقوع قتلى وإصابات في صفوف المدنيين بمحطة 13 جراء القصف الجوي العشوائي.
وأشار مواطنون إلى أن مناطق عدة متفرقة بأم درمان القديمة شهدت اشتباكات عنيفة وتبادلاً للقصف المدفعي من الطرفين، مما أحدث انفجارات وتصاعداً لأعمدة الدخان في سماء تلك المناطق، كما قصفت “الدعم السريع” مواقع عسكرية تابعة للجيش بأم درمان من منصاتها ببحري، ورد الأخير من قاعدة وادي سيدنا شمال المدينة.
كما أفاد شهود أن الطيران الحربي قصف وبشكل مكثف مواقع يعتقد أنها تتمركز بها قوات “الدعم السريع” في منطقة الدبيبات، بمحلية القوز في جنوب كردفان.
في حين أطلقت لجان مقاومة منطقة الكدرو شمال بحري نداءً عاجلاً بسبب الأوضاع القاسية التي يعيشها ما تبقى من أهالي المنطقة من أجل الحصول على مياه الشرب والكهرباء في ظل استمرار انعدام معظم الخدمات منذ أشهر.
وبحسب بيان للجان الكدرو “يعاني سكان هذه المنطقة من انقطاع المياه والكهرباء بشكل تام، بعد أن كانوا يعتمدون على الكهرباء في ضخ المياه من الآبار”، لافتة إلى وجود خمس آبار في المنطقة، لكن الأهالي الذين لم يغادروا ظلوا يعتمدون على بئر أحد المساجد، التي توقفت بسبب عطل فني منذ ستة أيام، مما جعلهم يعانون العطش.
استقطاب سياسي
يقول أستاذ العلوم السياسية في الجامعات السودانية الزمزمي بشير لـ”اندبندنت عربية”، إن “إعلان أديس أبابا الذي رفضه البرهان أحدث تباينات كبيرة داخل القوى السياسية السودانية ما بين مؤيد ومعارض، في موازاة صمت الغالبية العظمى من الشعب السوداني الذي نهبت أمواله وممتلكاته وأصبح مشرداً داخل البلاد وخارجها، ولم تعد جميع القوى المدنية من اليمين واليسار تمثل تطلعاته”، مستدركاً “لكن السؤال المهم هو هل هذا الإعلان الذي توصلت إليه تنسيقية القوى المدنية برئاسة عبدالله حمدوك وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو سيؤدي إلى إيقاف الحرب؟ كذلك لماذا تم تأجيل لقاء البرهان- حميدتي الذي كان مقرراً له 28 ديسمبر (كانون الأول)، وتقديم لقاء الأخير مع حمدوك مما يعني إحداث حشد واستقطاب سياسي للدعم السريع”.
وأضاف بشير “في اعتقادي أن إيقاف الحرب مرتبط بصورة أساسية بلقاء طرفي القتال (البرهان وحميدتي) بحكم مسؤوليتهما المباشرة عن نشوبها، لكن هناك توجساً من قبل الطرفين لإيقاف هذه الحرب، بخاصة من جانب (الدعم السريع) بسبب ما ارتكبته من انتهاكات واغتيالات واعتقالات خارج النظام القضائي، فضلاً عن تدميرها لمؤسسات الدولة ونهب المال العام والخاص، وحتماً كل هذه الممارسات ستؤثر في وجود هذه القوات على الساحة السياسية، كما أن هذه الانتهاكات تطاول قيادات الجيش، فكثير من المدنيين قتلوا وأصيبوا في هذه الحرب من جراء القصف الجوي والمدفعي المتبادل بين طرفي النزاع، فهذه القضية معقدة للغاية وتحتاج لتضافر جهود وطنية مخلصة”.
وأردف “ضغط المجتمع الدولي لم يكن بالمستوى المطلوب حتى الآن لانشغاله بأحداث غزة، ولإنجاح وقف إطلاق النار وصولاً لإنهاء هذه الحرب لا بد من إشراك القوى الإقليمية المتهمة بتدخلها في هذا الصراع بأي مفاوضات مقبلة مباشرة وغير مباشرة”.
ونوه أستاذ العلوم السياسية إلى أن “الأوضاع في السودان بخاصة العسكرية بعد اجتياح الدعم السريع لولايات دارفور والجزيرة تعقدت، حيث كان التفاوض قبل تمدد القوات المتمردة حول كيفية خروجها من الخرطوم، لكن الآن نتحدث عن وجودها في مدن عدة، وهذا مما دفع نحو التعبئة العامة من خلال المقاومة الشعبية التي أصبح لها طابع شعبي أكثر من الرسمي، مما يدل على كراهية الشعب لسلوكيات الدعم السريع التي اعتبرت أموال المواطن وممتلكاته غنائم لها ونقلتها إلى أقاصي دارفور وغرب ووسط أفريقيا”.
محاولات تخريب
من جهته، يقول المتخصص في الاقتصاد السياسي بجامعات السودان، الحاج حمد إنه بات “من الواضح أن صقور الحركة الإسلامية في السودان هي المسيطرة على قيادة القوات المسلحة السودانية، لأنهم يرغبون في أن يكونوا جزءاً من المعادلة السياسية المقبلة”.
وأضاف في حديثه إلينا أنه “ليس من الضروري أن تكون هذه المعادلة بموجب اتفاق مع قائد الدعم السريع، فالحركة الإسلامية تريد البقاء في السلطة بأي ثمن حتى على أنقاض الدمار والجثث، فهي تتبع المثل الشعبي (إذا غلبك سدها وسع قدها)، فقد أطلقوا خطابات للداخل والخارج كلها تهديد ووعيد”.
وحول مصير لقاء البرهان- حميدتي المرتقب في ظل المشاحنات التي دارت بينهما بعد توقيع إعلان أديس أبابا، قال المتخصص في الاقتصاد السياسي “هذا اللقاء أصبح في حكم المنتهي”.
إعادة الإعمار
اقتصادياً ناقش الاجتماع الثاني للجنة إعداد رؤية اقتصادية لفترة ما بعد الحرب السودانية وإعادة الإعمار والتعويضات برئاسة وزير المالية جبريل إبراهيم موقف الإعداد عبر محاور اللجنة المختلفة من رؤساء اللجان الفرعية كل على حدة، كما تم الاستماع لمحور التجارب في مجال إعادة الإعمار والتعويضات باستعراض تجارب بعض الدول المتقدمة والدول الإقليمية التي مرت بحروب ونزاعات شبيهة.
وبحسب بيان لوزارة المالية، فإن الاجتماع استعرض أيضاً منهجيات العمل، فضلاً عن الاطلاع على تجارب ألمانيا والمجر وجنوب أفريقيا وبولندا ورواندا وغيرها.