في ظل ما تواجهه الأزمة السودانية من انسداد سياسي، بخاصة بعد إعلان حكومة الخرطوم تجميد عضويتها في الهيئة الحكومية المعنية بالتنمية “إيغاد” التي تعد أحد المنابر الإقليمية الفاعلة لإيقاف الحرب الدائرة بين الجيش وقوات “الدعم السريع”، منذ منتصف أبريل (نيسان)، تتصاعد وتيرة العمليات العسكرية على الجبهات القتالية كافة داخل العاصمة الخرطوم وخارجها، فضلاً عن اتساع الانتهاكات بمختلف أنواعها من قبل طرفي النزاع ضد المدنيين، في وقت استبعد محللون سياسيون أي تأثير أو جدوى للعقوبات التي فرضها المجلس الأوروبي على ستة كيانات تتبع لكل من الجيش السوداني و”الدعم السريع” لجهة إيقاف الحرب بين الطرفين.
قصف متبادل
وبحسب مصادر مدنية، فإن طرفي القتال تبادلا القصف المدفعي من منصاتهما المختلفة على الجبهات كافة، حيث شهدت مواقع تمركز الجيش بمحيط القيادة العامة بوسط العاصمة وسلاح الإشارة ببحري قصفاً مدفعياً عنيفاً بقذائف الهاون من قبل “الدعم السريع”، فيما رد الجيش بقذائف مماثلة استهدفت أحياء المعمورة وأركويت والطائف والجريف الواقعة شرق الخرطوم، كما شن الطيران الحربي غارات جوية استهدفت تجمعات لقوات “الدعم السريع” بمنطقة شرق النيل بالخرطوم بحري.
وأشارت المصادر نفسها إلى أن مناطق أم درمان القديمة شهدت اشتباكات عنيفة بين القوتين المتحاربتين، كما شمل القصف المدفعي المتبادل المناطق الواقعة شمال وغرب وجنوب المدينة، حيث اتهمت لجان المقاومة بمنطقة أم درمان القديمة “الدعم السريع” بإطلاق عدد من القذائف العشوائية وسقوطها بأحياء العباسية والموردة وأبو كدوك.
إنسانياً، تفاقمت أوضاع العالقين والقاطنين بأحياء العاصمة الخرطوم نتيجة تصاعد المعارك الدائرة بين الجانبين لأكثر من أسبوع، حيث تعاني معظم هذه الأحياء من شح المواد الغذائية الاستهلاكية اليومية، فضلاً عن انقطاع خدمات المياه والكهرباء وتوقف الخدمات العلاجية في معظم المستشفيات الخاصة والحكومية باستثناء بعض المراكز العلاجية التي تسيطر عليها “الدعم السريع”، كما أحدثت ندرة الوقود شللاً في حركة المواصلات، مما أدى إلى مضاعفة أسعار تذاكر السفر بين الولايات.
ولاية الجزيرة
وواصل الطيران الحربي التابع للجيش، وفقاً لمواطنين بولاية الجزيرة، غاراته الجوية مستهدفاً تمركزات “الدعم السريع” بمنطقتي أبو حراز والشكابة شرق مدينة ود مدني التي تسيطر عليها الأخيرة منذ الـ18 من ديسمبر (كانون الأول)، فضلاً عن مناطق أخرى.
ولفتت لجان المقاومة في هذه المدينة إلى استمرار شن الهجمات الجوية على المناطق الحيوية في ود مدني بحجة أنها تحوي ارتكازات لـ”الدعم السريع” في حين أنه لا توجد أي مظاهر عسكرية تتبع لها في تلك المناطق.
غرب كردفان
وفي ولاية غرب كردفان، لقي ثمانية مدنيين مصرعهم، فضلاً عن إصابة أربعة آخرين على أثر غارات جوية مكثفة نفذها طيران الجيش على عدد من القرى المحيطة بمدينة المجلد، كما أدى القصف، بحسب شهود، إلى إحراق أعداد كبيرة من منازل المواطنين بالكامل ونفوق كميات كبيرة من الماشية وإتلاف المحاصيل الزراعية.
ويثير تصاعد النزاع العسكري بين طرفي القتال مخاوف من تفاقم الأزمة الإنسانية في ولاية غرب كردفان، حيث نزح عشرات الآلاف من السكان من منازلهم بسبب القتال. وتعد هذه الولاية من أهم الولايات السودانية لجهة تمتعها بثروة طبيعية كبيرة بما في ذلك النفط والذهب.
كما أصيب خمسة مدنيين من بينهم امرأتان بإصابات خطرة في اشتباكات مباشرة هي الأولى من نوعها بين قوة من الفرقة 22 التابعة للجيش وأخرى تتبع لـ”الدعم السريع” في منطقة دونكي العمدة غرب بابنوسة في الولاية ذاتها. وأفاد مواطنون بأن قوات “الدعم السريع” تواصل حصارها مدينة بابنوسة، على بعد 10 كيلومترات، في الاتجاهات الشرقية والجنوبية والغربية، مما أدى إلى نزوح سكانها إلى المزارع والقرى المجاورة خوفاً من وقوع اشتباكات بين طرفي النزاع داخل المدينة.
النيل الأبيض
إلى ذلك، نفت “الدعم السريع” الأنباء المتداولة في مواقع التواصل الاجتماعي عن فرضها حصاراً على قرية ود كبيش بمنطقة القطينة بولاية النيل الأبيض. وقال الناطق الرسمي باسمها، في بيان، إن “ما يتردد، في هذا الشأن، هو محاولة لدق إسفين بين قواتنا والمواطنين في ظل تقدمها نحو النيل الأبيض”، مؤكداً أن هذه القوات المنتشرة في هذه الولاية لديها علاقات طيبة مع المواطنين وتقدم لهم الخدمات الإنسانية والاجتماعية.
ورشة عمل
سياسياً، تستضيف القاهرة اليوم الثلاثاء ورشة عمل تشارك فيها حركات مسلحة موقعة على اتفاق جوبا للسلام لمناقشة الأوضاع الأمنية في دارفور وإمكان التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار وخفض التوتر في الإقليم.
وتنظم هذه الورشة، التي تستمر ثلاثة أيام، منظمة “بروميديشن” الفرنسية، بالتعاون مع وزارة الخارجية الفرنسية ونظيرتها المصرية، ووجهت الدعوة إلى الأطراف الفاعلة في إقليم دارفور، وهي الحركات المسلحة والجيش السوداني وقوات “الدعم السريع”. وتناقش الورشة موضوعين أساسيين هما وقف إطلاق نار في إقليم دارفور وتشكيل لجنة مشتركة بين الجهات العسكرية في المنطقة لتخفيف التوتر والتنسيق في ما بينها.
حل لجان الخدمات
في الأثناء، أصدر وزير الحكم الاتحادي في السودان محمد كرتكيلا صالح قراراً قضى بحل لجان التغيير والخدمات في مختلف ولايات السودان، وهي اللجان التي تضم ناشطي المقاومة المتطوعين في الأحياء والقرى لمساعدة الأهالي خلال الحرب، فيما أعلن عدد من لجان التغيير مناهضته هذه القرارات. ووفقاً لبيان صادر عن وزارة الحكم الاتحادي، فإن القرار يرجع لعدم الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي ولعدم الاتفاق بين القوى السياسية وضماناً لوحدة وسلامة البلاد.
وشمل القرار حصر الأصول وتجميد الحسابات المصرفية لهذه اللجان، كما وجه القرار، في الوقت نفسه بتكوين لجان تسييرية بديلة في القرى والأحياء والأسواق، مكونة من سبعة أشخاص لا انتماءات سياسية لهم، بإشراف السلطات المحلية. وأصدر ولاة كل من الشمالية ونهر النيل والجزيرة والقضارف وكسلا وسنار والنيل الأبيض وشمال وجنوب كردفان قرارات بحل لجان التغيير والخدمات.
وارتبطت هذه اللجان التي تأسست في 2019 بتحالف قوى “الحرية والتغيير” الذي شارك، إلى جانب المكون العسكري، في حكم البلاد في ضوء اتفاق الفترة الانتقالية بعد إطاحة حكم الرئيس السابق عمر البشير، إذ قاد رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك الحكومة، عقب التوقيع على الوثيقة الدستورية بين الشريكين (المدنيين والعسكريين) في الـ17 من أغسطس (آب) من العام نفسه، لكن، وبعد الانقلاب الذي نفذه قائد الجيش عبدالفتاح البرهان في الـ25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021، غير الجيش نظرته تجاه تحالف قوى “الحرية والتغيير” والكيانات التابعة له أو القريبة منه باعتبارها مناوئة، واتسعت دائرة الشقاق بين الجانبين مع اندلاع الحرب الدائرة الآن بين الجيش و”الدعم السريع”.
عقوبات أوروبية
دولياً، فرض المجلس الأوروبي عقوبات على ستة كيانات ضالعة في الحرب في السودان، وبحسب بيان للمجلس، فإن الكيانات الستة مسؤولة عن “دعم الأنشطة التي تقوض الاستقرار والانتقال السياسي في السودان”، ومن بين الكيانات المدرجة شركتان في مجال تصنيع الأسلحة والمركبات لصالح القوات المسلحة السودانية هما “منظومة الدفاعات الصناعية” وشركة “أس أم تي” للصناعات الهندسية، إضافة إلى شركة “زادنا” العالمية للاستثمار المحدودة التي تسيطر عليها القوات المسلحة السودانية وثلاث شركات متورطة في شراء المعدات العسكرية لقوات “الدعم السريع”، وهي شركة “الجنيد” للأنشطة المتعددة المحدودة، وشركة “تراديف” للتجارة العامة المحدودة، وشركة “جي أس كيه أدفانس” المحدودة.
أضاف المجلس “تجمد أصول الشركات المدرجة، ويحظر تقديم الأموال أو الموارد الاقتصادية لها أو لمصلحتها بصورة مباشرة أو غير مباشر”، مشيراً إلى أن “الاتحاد الأوروبي لا يزال يشعر بقلق عميق إزاء الوضع الإنساني في السودان ويؤكد من جديد دعمه الثابت وتضامنه مع الشعب السوداني”.
ويسير الاتحاد الأوروبي على خطى الولايات المتحدة التي فرضت عقوبات ضد أولئك الذين يرتكبون أعمال عنف في السودان، وكذلك بريطانيا التي فرضت، العام الماضي، عقوبات على شركات مرتبطة بجماعات عسكرية سودانية.
عدم جدوى
وعن جدوى هذه العقوبات، قال المتخصص في الشأن الاقتصادي والسياسي في الجامعات السودانية حسن بشير محمد نور “في حقيقة الأمر، ليست هناك علاقات مباشرة ذات تأثير لأي من الكيانات السودانية التي فرض الاتحاد الأوروبي عليها عقوبات، سواء من حيث التسليح أو التمويل، من ثم فإن هذه العقوبات لن تكون مجدية بصورة فعالة لإيقاف الحرب أو الحد منها، لكن ربما تكمن أهميتها في الجوانب السياسية أو الملاحقة لجهة تدفقات الأموال لتلك الكيانات”. وأضاف محمد نور “في اعتقادي أنه إذا أرادت القوى الفاعلة أوروبياً وقف القتال بين الجيش و(الدعم السريع)، هناك عديد من الوسائل التي يمكن اللجوء إليها، من ضمنها حظر إمدادات السلاح، بخاصة أن لكل من طرفي الحرب ممولين وداعمين وموردين للأسلحة، لذلك، فإن حظر السلاح مسألة في غاية من الأهمية، إضافة إلى حظر الطيران الحربي في الأجواء السودانية، وكذلك تحويل ملف الانتهاكات من مجلس الأمن إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهو أمر قد يبدو صعباً نسبة إلى وجود الصين وروسيا كعضوين دائمين في مجلس الأمن، إذ بإمكانهما تعطيل مثل هذه الخطوات”.
وتابع المتخصص في الشأن الاقتصادي والسياسي “أيضاً من القضايا المهمة التعامل بجدية في مسألة القبض على المطلوبين سلفاً لدى المحكمة الجنائية الدولية، فضلاً عن الضغط على ممولي هذه الحرب وداعميها وموردي السلاح، وهم معروفون بالنسبة إلى المجتمع الدولي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فهذه الجهات لها علاقات قوية مع جميع الفاعلين في المجتمع الدولي، لكن حتى الآن، لا توجد جدية واضحة لإيقاف الحرب لأسباب تخص كل الجهات المؤثرة، نظراً إلى التعقيدات هذه الحرب وتشابكاتها، من ثم فإن هذه العقوبات الأوروبية، مثل العقوبات الأميركية السابقة، لن يكون لها تأثير”.