تشهد بوابة البحر الأحمر، حيث مضيق “باب المندب”، بوادر صراع ذي تأثير عالمي واسع بالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية لذلك المضيق الذي تمر منه بين 12 و15 في المئة من حجم التجارة البحرية عالمياً.
يتعرض المضيق، الذي تقف كثير من الأساطير وراء اسمه الذي يعني “بوابة الدموع”، لهجمات عنيفة من قبل الحوثيين في اليمن، الذين يستهدفون سفن الشحن الدولية المارة عبره نحو البحر الأحمر متجهة إلى قناة السويس، بدعوى دعم الفلسطينيين في خضم حرب تشنها إسرائيل على حركة “حماس” في غزة، وأسفرت عن سقوط آلاف من الضحايا المدنيين وتهجير سكان القطاع.
هجمات باب المندب دفعت تحالف تقوده الولايات المتحدة وبريطانيا لتوجيه ضربات عسكرية ضد الحوثيين، المدعومين من إيران، لحماية حرية حركة الملاحة الدولية.
ويمثل مضيق باب المندب أحد أهم المسارات المائية في العالم للشحن الدولي وبخاصة النفط الخام والوقود المتجه من الخليج إلى البحر المتوسط أو السلع المتجهة إلى آسيا بما في ذلك النفط الروسي. ويشكل المضيق والبحر الأحمر وقناة السويس روابط حيوية على طول طريق الشحن الرئيس في العالم بين آسيا وأوروبا، إذ تقدر المنظمة البحرية الدولية أن ما يصل إلى ربع الشحن العالمي يمر عبر هذا الطريق، وهو ما يعادل مليارات عدة من أطنان البضائع كل عام، ويشمل ذلك ما يقدر بنحو 4.5 مليون برميل من النفط يومياً ينبع من دول الخليج والدول الآسيوية.
ووفق “رويترز”، أفادت إدارة معلومات الطاقة الأميركية أن 12 في المئة من إجمالي النفط المنقول بحراً في النصف الأول من 2023، وكذلك ثمانية في المئة من تجارة الغاز الطبيعي المسال، مرت من باب المندب وخط أنابيب “سوميد” وقناة السويس.
وإضافة إلى أهميته التجارية العالمية كمنفذ البحر الأحمر إلى المحيط الهندي، فإن المضيق الذي يقع بين اليمن في شبه الجزيرة العربية وجيبوتي وإريتريا على الساحل الأفريقي، يحظى بأهمية تاريخية خاصة سواء على صعيد الأحداث أو التاريخ البشري.
نظرية الأصل الأفريقي
يعني اسم باب المندب “باب الدموع” أو “باب الحزن”، وربما يشير ذلك إلى أخطار التنقل في الممر المائي الضيق الذي يبلغ عرضه 20 ميلاً وطولة 70 ميلاً، ويمتلئ بالتيارات المتقاطعة والرياح غير المتوقعة والشعاب المرجانية والمياه الضحلة.
ووفق موقع “ناشونال جيوغرافيك”، تحطم عديد من السفن خلال القرون الماضية في باب المندب، إذ طالما كانت المضائق بمثابة حاجز مخيف، وكانت الطرق البرية في كثير من الأحيان أكثر أماناً لنقل الثروات، كما تواجه السفن حالياً أخطار الألغام البحرية الناجمة عن الصراعات الماضية.
يلعب مضيق باب المندب دوراً رئيساً في نظرية “الأصل الأفريقي الحديث”، التي تعتقد أن الجنس البشري الحديث “هومو سابينس” تطور في شرق أفريقيا منذ ما يقارب 150 ألف سنة، إذ يعتقد العلماء الذين يتبنون تلك النظرية أن الإنسان العاقل هاجر من هناك إلى الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا والأميركتين عبر ذلك المضيق الذي يربط أفريقيا وآسيا، ليحل محل أنواع أشباه البشر الأخرى التي عاشت في عديد من تلك المناطق.
إذا كان الأمر كذلك، فمن المرجح أن الهجرة القديمة من القرن الأفريقي إلى شبه الجزيرة العربية كانت خطوتهم الأولى، واقترح بعض العلماء أن مضيق باب المندب ربما كان بمثابة جسر بري بين المنطقتين لبعض الوقت في الأقل بسبب تقلب مستويات سطح البحر.
وفي حين أشارت دراسة أجريت عام 2006 إلى عدم وجود مثل هذا الجسر البري عبر باب المندب منذ عدة ملايين من السنين، فإن دراسة حديثة اقترحت أن البحر بين المنطقتين كان ضيقاً للغاية بحيث يمكن عبوره بسهولة عن طريق الانجراف أو السباحة.
اكتسب باب المندب أهمية عالمية جديدة بعد عام 1869، مع افتتاح قناة السويس في مصر، التي ربطت خليج السويس في شمال غربي البحر الأحمر بالبحر المتوسط. وأدت القناة إلى زيادة كبيرة في الشحن في البحر الأحمر وعبر باب المندب، وسرعان ما أصبحت طريق الشحن المفضل بين أوروبا وآسيا.
في ذلك الوقت، كانت الإمبراطورية البريطانية قد استولت بالفعل على “جزيرة بريم” في باب المندب خلال الحروب النابليونية، وبعد عقود في عام 1856، خوفاً من عودة القوة الفرنسية من خلال القناة التي شرعت فرنسا في حفرها، احتلت بريطانيا الجزيرة بالكامل وتمركز قواتها هناك وقامت ببناء منارة. واستخدمت بريطانيا “بريم” بصورة رئيسة كمحطة للتزود بالوقود للسفن البخارية التي تعمل بالفحم والمسافرة من وإلى قاعدتها البحرية في عدن، وهي مدينة ساحلية على الساحل الجنوبي لليمن على بعد نحو 100 ميل إلى الشرق من باب المندب.
استمر الوجود البريطاني في المنطقة حتى أواخر الستينيات، عندما تم تسليم “بريم” إلى حكام جنوب اليمن، ثم أصبح الجنوب مدعوماً من الكتلة الشيوعية، في حين جاءت مصر لدعم النظام في شمال اليمن، وخاض الجانبان حرباً أهلية مريرة حتى توحيدهما رسمياً في عام 1990. في العقود الأخيرة الماضية، أصبح باب المندب نقطة ساخنة بسبب الكميات الهائلة من التجارة والنفط التي تمر عبره. وتحتفظ عديد من القوى العالمية، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين، الآن بقواعد عسكرية كبيرة على الجانب الجيبوتي من المضيق، بزعم منع باب المندب من الوقوع فريسة للأعمال العدائية.
حرب 1973
حرب غزة ليست الأولى التي تتعلق بباب المندب. ففي عام 1973، بعد حرب يوم الغفران، أعلن الأعضاء العرب في المجموعة الاقتصادية المنتجة للنفط (أوبك) عن فرض حصار على ناقلات النفط المتجهة إلى إسرائيل من إيران، التي كانت تخضع آنذاك لنظام الشاه الموالي للغرب. وفرضت السفن المصرية الحصار على باب المندب وأجبرت عديداً من ناقلات النفط على التراجع، حتى أعيد فتح المضيق بعد أشهر عدة.
تلك الأحداث التاريخية المتتالية، تسلطت الضوء على الأهمية الجيوسياسية المستمرة للمضيق، وتأثيره الحاسم على إمدادات الطاقة العالمية وعلى مصر بشكل مباشر. وقد تسببت هجمات الحوثيين في اليمن بتحويل مسار السفن عن مضيق باب المندب والبحر الأحمر إلى ممرات أخرى، وأدى هذا إلى خفض عائدات قناة السويس بالدولار 40 في المئة منذ بداية العام مقارنة بـ2023، بحسب ما صرح رئيسة هيئة القناة الفريق أسامة ربيع، موضحاً في تصريحات تلفزيونية، الأسبوع الماضي، أن حركة عبور السفن تراجعت 30 في المئة في الفترة من الأول من يناير (كانون الثاني) إلى 11 من الشهر نفسه على أساس سنوي. وأوضح أن عدد السفن العابرة لقناة السويس انخفض إلى 544 سفينة حتى الآن هذا العام، مقابل 777 سفينة في الفترة نفسها من العام الماضي.
ووفق منصة “بورت ووتش” التابعة لصندوق النقد الدولي لتتبع حركة الشحن، فقد تراجعت الحمولة المارة بقناة السويس خلال الفترة من 19 نوفمبر وحتى 14 يناير نحو 11 في المئة لتصل إلى 242.5 مليون طن مقابل 273 مليون طن في الفترة نفسها من العام الماضي، حيث تقوم عديد من شركات الشحن التجارية بتحويل سفنها إلى طرق أخرى.
وقناة السويس مصدر رئيس للعملة الأجنبية التي تعاني مصر نقصاً فيها، وتسعى السلطات جاهدة منذ سنوات لتعزيز إيراداتها بما في ذلك من خلال توسيع القناة في عام 2015. وذكر ربيع أن السفن المضطرة إلى استكمال رحلاتها على وجه السرعة هي فقط التي حولت مسارها حول رأس الرجاء الصالح، أما السفن الأخرى فتنتظر استقرار الوضع.
وأوضح أن “جزءاً كبيراً من البضاعة سيعود مجدداً بعد انتهاء الأزمة. وأعتقد من يعبر عبر رأس الرجاء الصالح هو الضروري، كالشحنات التي يجب أن تصل في ميعادها. ورأس الرجاء الصالح ليس الطريق المناسب للسفن بخاصة في هذه الأجواء، إذ يستغرق زمن الرحلة عبره نحو أسبوعين، مما يعني تأخير سلاسل الإمداد وارتفاع كلف الشحن التي زادت بالفعل، حيث أفادت تقارير صحافية أن كلفة الحاوية القياسية المنقولة من الصين إلى شمال أوروبا ارتفعت من نحو 1500 دولار في نوفمبر إلى أكثر من 4 آلاف دولار.
وفي وقت سابق من الشهر الجاري، تم توجيه نصائح لصناعة الشحن العالمية بتجنب الطريق الرئيس المار عبر باب المندب في ظل حملة القصف الدولي ضد أهداف للحوثيين في اليمن. وقالت القوات البحرية المشتركة، التي تمثل 39 سلاحاً بحرياً بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، إن جميع السفن يجب أن تبقى “بعيدة جداً” من باب المندب، وفقاً لإشعار من “إنترتانكو”، وهي مجموعة تجارية تمثل مالكي ناقلات النفط والكيماويات والغاز. ونشر الإشعار أيضاً على الموقع الإلكتروني لشركة تأمين الشحن الكبرى.
مخاوف في شأن السلع
قدرت مجموعة “ترافيغورا” العملاقة لتجارة السلع منتصف يناير الجاري، أن حركة ناقلات النفط والغاز انخفضت بنسبة 15 إلى 20 في المئة، حتى قبل توجيه الضربات الجوية ضد الحوثيين. وقال كبير محللي الشحن لدى مجموعة “بيمكو” التجارية نيلز راسموسن، إنه “في حال تصاعد الوضع، يجب أن نتوقع من جميع السفن تجنب البحر الأحمر حتى استعادة الممر الآمن”.
والأسبوع الماضي، قالت صحيفة “فايننشيال تايمز” البريطانية، إن المخاوف تتصاعد في شأن التأثيرات غير المباشرة الأكثر خطورة على السلع الأساسية، بما في ذلك النفط، في حال تورط القوات الأميركية بشكل أعمق في صراع إقليمي مستعر. ونقلت عن رئيسة أبحاث الاقتصاد الكلي لدى شركة “أليانز تريد” آنا بواتا، قولها إن “التأثير في سلاسل التوريد العالمية يمكن أن يصبح أكثر حدة إذا استمرت الأزمة إلى ما بعد النصف الأول من العام”.
ووفق شبكة “بلومبيرغ” الأميركية، أظهر التتبع الرقمي للسفن، الجمعة، أن عديداً من الناقلات التي تحمل منتجات نفطية ومواد كيماوية كانت متجهة نحو مضيق باب المندب، إما أبطأت سرعتها أو غيرت اتجاهها قبيل الغارات، على رغم أن بعض السفن كانت لا تزال تمر عبرها. وأفاد أحد سماسرة السفن أن معظم مالكي ناقلات النفط اختاروا إيقاف العبور موقتاً عبر المنطقة على رغم استمرار بعضهم.
وفي حين يتمتع الشحن التجاري بالحق في حرية المرور، مما يعني أن السفن لا يزال مسموحاً لها قانوناً بالمرور، فإنه إذا تم الالتزام الصارم بالنصائح فإن إغلاق باب المندب من شأنه أن يغلق قناة السويس كخيار لأي سفينة ترغب في قطع الطريق بين آسيا وأوروبا.