من منزل إلى آخر يتنقل الفلسطيني يزن أبو إرميله بهدف العودة إلى منزله في حارة السلايمة داخل البلدة القديمة بمدينة الخليل التي يعيش فيها نحو 10 آلاف فلسطيني بينهم مئات المستوطنين الإسرائيليين.
يأتي ذلك بسبب حظر التجوال الذي فرضه الجيش الإسرائيلي بعد ساعات على هجوم حركة “حماس” في السابع من أكتوبر الماضي.
وعزل الجيش الإسرائيلي الفلسطينيين في البلدة القديمة التي أقامت فيها إسرائيل خمس مستوطنات يعيش فيها أكثر المستوطنين تطرفاً باعتبارها “أرض الأجداد”.
شوارع وحارات وحواجز
ولأكثر من ستة أسابيع، أغلق الجيش الإسرائيلي الحواجز العسكرية المحيطة بالبلدة القديمة ومنع الفلسطينيين القاطنين فيها من الخروج أو الدخول إليها، كما فرض قيوداً مشددة للغاية على باقي الفلسطينيين للوصول إلى المسجد الإبراهيمي وأسواق البلدة التجارية.
وحتى مع سماح الجيش الإسرائيلي بحركة الفلسطينيين المقيمين في البلدة القديمة منذ أسابيع فإنه حدد أوقاتاً معينة لفتح وإغلاق الحواجز العسكرية، ولكن ليس لجميع من يقيم في حاراتها.
ويحتفظ الجيش الإسرائيلي بكشف لمعظم الفلسطينيين المقيمين في البلدة القديمة كي لا يسمح إلا لهم بالخروج أو الدخول إلى واحدة من أقدم المناطق في العالم، التي تتضمن مغارة “المكفيلا” التي يعتقد اليهود والمسلمون أن سيدنا إبراهيم وزوجته سارة وعدداً من أبنائهما مدفونون فيها.
وروى يزن لـ”اندبندنت عربية” كيف تجوب مركبة بيضاء تابعة للجيش الإسرائيلي الشوارع الضيقة للبلدة القديمة وتطارد الفلسطينيين وتطلق الرصاص باتجاههم، وتعتقل آخرين بهدف إجبارهم على البقاء في منازلهم.
في مقابل حظر وتقييد حركة الفلسطينيين فإن المستوطنين يتحركون بحرية في البلدة القديمة التي أقاموا فيها خمس مستوطنات بعد سيطرة إسرائيل على الخليل عام 1967.
ويوفر الجيش الإسرائيلي الحماية للمستوطنين في البلدة القديمة التي تشهد احتكاكات متواصلة مع الفلسطينيين.
وبحسب رئيس لجنة “إعمار الخليل” الفلسطينية عماد حمدان، فإن إسرائيل قسمت البلدة القديمة إلى أجزاء عدة، ثلاثة أرباعها يخضع لحظر التجوال منذ السابع من أكتوبر. فشارع الشهداء وتل الرميدة والسهلة وشرق الحرم وحارة السلايمة وواد الحصين وحارة جابر كلها مغلقة.
وأشار حمدان إلى أن الفلسطينيين المقيمين على بعد 10 أمتار من المسجد الإبراهيمي لا يستطيعون الوصول إليه والصلاة فيه بسبب إجراءات الجيش الإسرائيلي.
وأوضح حمدان أن الجيش الإسرائيلي يبرر فرض حظر التجوال ومنع الفلسطينيين من الوصول إلى البلدة القديمة بأسباب أمنية وخشية تنفيذ هجمات ضد المستوطنين.
كراهية عميقة وعنف
واعتبر الأستاذ في معهد “ترومان” للسلام في الجامعة العبرية روني شاكيد أنه “لا يمكن أن يتشارك طرفان، فلسطيني وإسرائيلي، مكاناً مقدساً واحداً”، في إشارة إلى المسجد الإبراهيمي الذي استولت إسرائيل على أكثر من نصفه وخصصته للمستوطنين.
وأشار شاكيد إلى أن “الكراهية الموجودة بين الطرفين أصبحت عميقة”، مضيفاً أن المستوطنين المقيمين بين الفلسطينيين “في حاجة إلى عدد أكثر من الجيش الإسرائيلي لحمايتهم”.
وأوضح شاكيد أن وجود المستوطنين في قلب الخليل يسبب “مشكلات وكراهية وعنفاً متواصلاً، بخاصة أن هؤلاء المستوطنين يحملون أفكاراً عنصرية ومتطرفة، ويرفضون التعايش السلمي مع الفلسطينيين، ويسعون إلى ترحيلهم من المدينة”.
ورجح شاكيد تضاعف العنصرية والكراهية بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد السابع من أكتوبر، مشدداً على “ضرورة البحث عن كيفية تعايش الشعبين بسلام وأمن ونسيان الماضي”.
ويقيم في مستوطنات البلدة القديمة للخليل وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، الذي يتزعم حزب “العظمة اليهودية”، إضافة إلى وزيرة “الاستيطان والمهام الوطنية” عن حزب “الصهيونية الدينية” أوريت ستروك.
ويرى الباحث في الشؤون الإسرائيلية عادل شديد أن مدينة الخليل تشكل واحدة من أربع مدن مقدسة دينياً لليهود إلى جانب القدس وصفد وطبريا. ويعتبر اليهود الإسرائيليون الخليل “أرض أجداد، لأن فيها قبور الأنبياء، ووقعت فيها مذبحة شهيرة لليهود خلال ثورة البراق في 1929 وقتل خلالها نحو 67 يهودياً”.
ووفق شديد، فإن بن غفير يعتبر من تلامذة مؤسس الاستيطان في الخليل موشيه ليفنغر، الذي تتلمذ بدوره على يد الحاخام كوك مؤسس الصهيونية الدينية القومية.
بعد أشهر من سيطرة إسرائيل على مدينة الخليل عام 1967 حسم تيار الاستيطان في حزب “العمل” الحاكم الرأي، ووافق على إقامة مستوطنات في قلب المدينة.
حينها اعتبر إسحق رابين أن الاستيطان سيؤدي إلى منع إقامة سلام مع الأردن التي انتزعت منها إسرائيل الضفة الغربية، فيما دعم شمعون بيريز الاستيطان في الخليل، بحسب شديد.
وأضاف أن رابين الذي توصل بعد ثلاثة عقود لاتفاق “أوسلو” مع منظمة التحرير الفلسطينية كان يرى أن الاستيطان في قلب الخليل “سيدخل الإسرائيليين في نفق لن يخرجوا منه أبداً”.
وفق شديد، فإن الاعتبارات الدينية والقومية اليهودية هي التي “انتصرت حينها، بل وأصبحت في الوقت الحالي تسيطر على الأحزاب السياسية الإسرائيلية”.
بعد مذبحة اليهود
ووجود اليهود في مدينة الخليل يعود إلى فترات زمنية متعاقبة، حين أسس الملك داوود مملكة يهوذا، قبل أن يدمرها الغزاة الأجانب بعد عقود على تأسيسها.
بعد ذلك عاد اليهود إلى المدينة في القرن الـ15 الميلادي إثر هجرتهم من الأندلس عقب سقوطها، لكن التيار الصهيوني وصل إلى المدينة في القرن الـ19، وفق الباحث في تاريخ المدينة أحمد الحرباوي.
وفق الحرباوي، فإن جماعة “يهود الحاباد” الذين هاجروا من شرق أوروبا إلى الخليل عام 1878 للتسريع في عودة السيد المسيح أسسوا “بيت هداسا” و”بيت روما”، وأقاموا مصرفاً في المدينة باسم “أنغلو فلسطين” عام 1904.
وأشار إلى أن تلك الجماعات القادمة من أوروبا كانت على خلاف مع اليهود المحليين في الخليل، ذلك لأنهم كانوا “أداة الحركة الصهيونية في التوسع والاستيطان، واشتروا أراضي تل الرميدة، واستأجروا أخرى”.
وبحسب الحرباوي فإن جماعة “الحاباد” استخدمت الروايات الدينية اليهودية بهدف جلب اليهود، في حين رفض يهود الخليل المشروع الاستيطاني. وفي 1924 أسس اليهود الأوروبيون مدرسة دينية في قلب الخليل، وكان اليهود يرتادونها من أنحاء العالم، وكانت الأكبر في فلسطين.
وأوضح أن ذلك “تسبب في اندلاع صراع لم ينته بين يهود الخليل واليهود القادمين من أوروبا المؤيدين للحركة الصهيونية، الذين انضموا إلى العصابات الصهيونية بعد ذلك”.
وبحسب الحرباوي فإنه بعد مذبحة اليهود عام 1929 التي سقط فيها 67، منها 62 من اليهود البولنديين، فإن بريطانيا أجلت اليهود كلهم بمن فيهم اليهود المحليون من المدينة، وسمحت بعدها بأشهر بعودة يهود أوروبا، ومنعت يهود المدينة الأصليين من العودة.
وأضاف أن الفلسطينيين حموا اليهود المحليين المقيمين في حارة اليهود، في حين وقعت المذبحة في مدرسة اليهود ومنزل رئيس المصرف اليهودي.
وبحسب الحرباوي فإن إسرائيل تمنع إلى الآن عودة اليهود المحليين إلى مدينة الخليل، حيث استولى اليهود الصهاينة على أملاكهم في المدينة، ومن ضمنها مقبرة اليهودية التاريخية في حي تل الرميدة.
حول المغارة الإبراهيمية
ويرى أستاذ التاريخ القديم محمد العلامي أن أطماع الحركة الصهيونية في الخليل تستند إلى أبعاد دينية بالاعتماد على ما ورد في التوراة، وحكم الملك داوود المدينة سبع سنوات ونصف السنة”.
وأشار العلامي إلى أن مغارة “المكفيلا” التي بنيت فوقها كنيسة ثم تحولت إلى المسجد الإبراهيمي ترتبط بما يعتقد اليهود أنه مكان دفن سيدنا إبراهيم وعدد من أفراد عائلته.
وأشار العلامي إلى أن محاولة اليهود الربط بين فلسطين وما ورد في شأنها بالتوراة لا يستند إلى دليل علمي أو أثري يدعمه سوى القصص الدينية.
ووفق العلامي فإن التنقيب الأثري بدأ في المدينة عام 1964 حينما بدأت بعثة أميركية برئاسة فليب هامومد بالتنقيب في حي تل الرميدة، ولم تجد أية صلة بين اليهود والمدينة، لكن عمليات التنقيب لم تتوقف في الحي، وتكررت أعوام 1982 و1999 و2015 من دون التوصل إلى أية نتيجة، بحسب العلامي.
ويعد حي تل الرميدة نواة مدينة الخليل، ويعود تاريخه إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، ويحوي آثاراً كنعانية. وبعد ذلك امتد التوسع العمراني إلى محيط مغارة “المكفيلا” عام 1500 قبل الميلاد، حيث أقيم بعد ذلك في العهد الروماني جدار ضخم حول المغارة، ثم كنيسة مسيحية في الفترة البيزنطية، فمسجد بعد الفتح الإسلامي.