صراع غير مسبوق في قطاع غزة، يحطم الأرقام القياسية الأكثر مأسوية، فإلى جانب 23 ألفاً قتلوا منذ بدء الحرب، هناك 2.3 مليون نسمة داخل القطاع نصفهم تقريباً من الأطفال يواجهون صراعاً مع الموت ليس فقط بالقنابل والصواريخ، بل كذلك بالأوبئة والأمراض المعدية، فمع انهيار النظام الصحي ونقص الغذاء والمياه النظيفة ووقوع أكثر من مليون نازح فلسطيني في مراكز الإيواء بين براثن الأوبئة والأمراض، اضطرت بسمة صالح (35 سنة) لترك المركز الذي أوت إليه مع عائلتها والعودة للعيش أسفل أنقاض منزلها بالقرب من مخيم الشاطئ غرب قطاع غزة، من أجل مداواة أبنائها الخمسة الذين تتراوح أعمارهم ما بين سنتين و15 سنة، بوصفات بدائية من أجل تخفيف الألم عنهم، فبعد أقل من أسبوعين، من إصابتهم بنزلات معوية وقيئ وإسهال، أصيبوا بمرض الجدري جراء عدوى أصابتهم أثناء وجودهم في مركز للإيواء، ورغم أن الشوارع المحيطة بمنزلها المدمر ممتلئة بالمياه العادمة، فإنها فضلته على البقاء داخل المركز الذي يشهد كارثة بيئية وصحية شديدة. كما أن صعوبة الحصول على علاجات نتيجة تكدس الجرحى في المستشفيات وإعطائهم الأولوية، تدخلهم في موجات مرض جديدة وخطرة قد تودي بهم، بحسب تعبيرها.
أمراض معدية
منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر الماضي، تفرض إسرائيل “حصاراً مطبقاً” على قطاع غزة مما تسبب في نقص خطر في المياه والغذاء والدواء والكهرباء والوقود اللازم لتشغيل المولدات الكهربائية في المستشفيات ومحطات تحلية المياه، ووفقاً لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، نزح منذ بدء الحرب، وحتى الآن، 1.9 مليون فلسطيني، يشكلون نحو 85 في المئة من سكان غزة. وأكد مكتب الإعلام الحكومي في غزة، أن هناك 1.4 مليون نازح موزعين على 223 مركز إيواء. ووثّقت منظمة الصحة العالمية منذ بدء الحرب حتى منتصف ديسمبر الماضي، نحو 180 ألف حالة التهاب في الجهاز التنفسي العلوي و136,400 حالة إسهال، نصفها بين الأطفال دون سن خمس سنوات، كما رصدت المنظمة، 55,400 حالة إصابة بالقمل والجرب، و5330 حالة إصابة بمرض جدري الماء، و42,700 حالة طفح جلدي، و4683 حالة من متلازمة اليرقان الحاد، و126 حالة التهاب السحايا. وبيَّنت المنظمة أن حالات إلاسهال بين الأطفال الصغار ارتفعت 25 ضعفاً عما كانت عليه قبل الحرب، مؤكدة أن الإسهال بات ثاني أكبر سبب لوفاة الأطفال في غزة نتيجة إصابة الجسم بالجفاف.
وصرحت المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية، مارغريت هاريس، في مؤتمر صحافي في جنيف بأن تقييم الوضع في مراكز الايواء أظهر تفشياً للأمراض المعدية، وأن حالات الإسهال بين الأطفال، تجاوزت المستويات الطبيعية بأكثر من 100 مرة، مؤكدةً أن “شح العلاج، وعدم توفر الأدوية يدهور صحة الأطفال الرضع على وجه الخصوص مما يؤدي إلى وفاتهم بسرعة كبيرة”. وأضافت “في النهاية سنرى موت عدد أكبر من الناس بسبب الأمراض أكثر حتى مما نراه بسبب القصف، إذا لم نتمكن من إعادة بناء هذا النظام الصحي”. ووفقاً للأمم المتحدة، توجد خمس مستشفيات فقط في شمالي غزة تعمل بطاقة جزئية، وثماني مستشفيات في المنطقة الجنوبية من أصل 11 مستشفى، واحد منها فقط لديها القدرة على علاج حالات حرجة أو إجراء عمليات جراحية معقدة، وإلى جانبها يعمل 18 مركزاً للرعاية الصحية من أصل 72، بينما يبلغ متوسط إشغال الأسرّة في المستشفيات العاملة 350 في المئة، ونسبة إشغال الأسرّة في وحدة العناية المركزة 260 في المئة.
بؤر وبائية
إلى جانب شح الأدوية الذي تعانيه كل مستشفيات غزة حالياً، وعدم وجود الأمصال واللقاحات اللازمة، أدت الظروف المعيشية المزرية إلى تعقيد الأزمة وسرعة تفشي الأمراض بسبب الازدحام وسوء الصرف الصحي ومحدودية الوصول إلى المياه النظيفة، كما أن تراكم النفايات، واستخدام مياه الأمطار الملوثة في الشرب من دون معالجة، وتناول طعام معلب منتهي الصلاحية تسبب في تكوين بؤرة لانتشار الأمراض الوبائية. مدير مستشفى “أبو يوسف النجار” مروان الهمص، أشار إلى أن انتشار تلك الأوبئة والأمراض يتركز في مراكز النازحين بمدينة رفح جنوب القطاع، بسبب نزوح مليون شخص إليها وعدم قدرة المراكز الصحية على الاستيعاب، موضحاً أن “هناك ما يزيد على 325 ألفاً و179 حالة بشكل عام أصيبت بأمراض معدية منذ بدء الحرب”.
بدوره، أكد المستشار الإعلامي لوكالة الغوث الدولية “الاونروا” عدنان أبو حسنة، أن الأمراض المعوية داخل مراكز الإيواء تضاعفت أربع مرات، والصدرية خمس مرات، والجلدية ثلاث مرات، إضافة إلى انتشار مرض “الالتهاب السحائي” بين الأطفال، و”الكبد الوبائي” نظراً لشرب المياه الملوثة”، مشيراً إلى أن تدفق معظم النازحين إلى مدينة رفح الحدودية التي يسكنها 300 ألف شخص، ومساحتها لا تزيد على 30 كيلومتراً مربعاً فقط “سيؤدي إلى أمور خطرة على كل المستويات”. ووفقاً لبيانات بلدية رفح، فإن إجمالي الموجودين في رفح حتى اللحظة لايقل عن 1.3 مليون نسمة، من أصل 2.3 نسمة، هم مجموع سكان قطاع غزة، منهم ما يزيد على 268 ألف نازح غير المسجلين لدى “الأونروا” يوجدون في الساحات والشوارع. وأشار مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) التابع للامم المتحدة، إلى أن “ضيق المساحة داخل ملاجئ الإيواء في الجنوب يضطر معظم النازحين من الرجال والمراهقين إلى البقاء بالعراء في ساحات المدارس أو الشوارع خارج الملاجئ”. وتحصي تقديرات الأمم المتحدة، أن نحو 60 في المئة من النازحين في قطاع غزة يعيشون في 156 منشأة تابعة لمنظمة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
كارثة صحية
وفقاً لمؤسسات دولية، فإن لكل 4500 شخص في غزة بالمتوسط، مكان واحد فقط للاستحمام، ومرحاض واحد لكل 220 شخصاً، وهناك مستويات مرتفعة من التغوط في الهواء الطلق، هذه الظروف تجعل انتشار الأمراض المعدية أمراً مؤكداً، حيث يؤدي الافتقار إلى الصرف الصحي والمياه النظيفة، إلى سرعة انتشار الأوبئة والأمراض في قطاع غزة.
ولفتت منسقة الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة لين هاستينغز إلى أن غزة باتت “بيئة مثالية للأوبئة وكارثة صحية عامة”. ورجح رئيس قسم الأطفال في مستشفى ناصر في خان يونس أحمد الفرا أن “أعداداً كبيرة ستصل بعد شهر مصابة بالتهاب الكبد الوبائي “أ” كنتيجة مباشرة للازدحام السكاني والاستخدام المشترك للحمامات”.
وصرحت وزيرة الصحة في السلطة الفلسطينية، مي الكيلة مطلع ديسمبر الماضي، بأنه تم تسجيل نحو ألف حالة إصابة بالتهاب الكبد الوبائي (أ) في قطاع غزة. من جانبه، حذر الناطق باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) جيمس إلدر خلال مؤتمر صحافي في جنيف منتصف ديسمبر الماضي، من أن “عدم توافر الوقود بكميات كافية سيؤدي لانهيار مرافق الصرف الصحي وحصول مأساة”. وأضاف أن “ثمة نقصاً حاداً في المياه، والبراز ينتشر في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية لأن ثمة نقصاً غير مقبول في المراحيض”. وشدد على أنه “من الصعب جداً المحافظة على النظافة الشخصية أو حتى غسل اليدين في قطاع غز”،. مؤكداً أنه “في حال بقي حصول الأطفال على المياه والصرف الصحي محدوداً وغير كاف سنرى ارتفاعاً مأسوياً في وفيات الأطفال، لأنهم يواجهون حالياً خطراً حاداً بانتشار أوبئة بشكل جماعي”.
وتوقعت رئيسة شعبة الصحة العامة العالمية في جامعة أدنبره ديفي سريدهار، في مقال لها نشرته صحيفة “أوبزيرفر” البريطانية، أن ربع عدد سكان قطاع غزة ربما يموتون في غضون عام بسبب تفشي الأمراض جراء الحرب الإسرائيلية غير المسبوقة على القطاع”. وأضافت أنه “مع عدم توفر العلاجات، يمكن أن يصاب الأطفال بالجفاف ويموتون بسرعة، ومن المحتمل أن نرى مزيداً من الأطفال يموتون من أمراض يمكن الوقاية منها أكثر من الرصاص والقنابل”. ووفقاً لمختصين، فإن التخلص غير السليم من النفايات البشرية خصوصاً في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية التي لا توجد بها ممارسات صرف صحي فعالة، تؤدي لانتشار أمراض مثل الكوليرا والسالمونيلا.
شح الأدوية
وتتعالى الأصوات الدولية والصحية أكثر من أي وقت مضى إلى وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية، لتعزيز وإعادة تزويد المرافق الصحية المتبقية، وتقديم الخدمات الطبية التي يحتاجها الجرحى والمرضى. وحذر المرصد الأورومتوسطي من أنه “من دون الأدوية والإمدادات الطبية والاحتياجات الأساسية الأخرى سيموت عشرات آلاف المرضى في قطاع غزة ببطء وبشكل مؤلم”، مؤكداً في بيان نشرة، الثلاثاء، أن ما يدخل من مساعدات طبية شحيحة إلى قطاع غزة عبر معبر رفح الحدودي مع مصر يكون أغلبه عبارة عن أدوية تخدير وأخرى مخصصة للعمليات الجراحية وما بعدها، من دون أن تحتوي على أدوية لعلاج الأمراض المزمنة وحالات مرضية أخرى. وبحسب شهادات مسؤولين طبيين وأصحاب صيدليات، فإن معاناة المرضى في قطاع غزة تتفاقم بشكل غير مسبوق نتجة لنقص كبير في أغلب أصناف الأدوية ومسكنات الألم، وغيرها من مستلزمات الرعاية الصحية الأولية والعناية المركزية والطوارئ، فيما يمتد النقص ليشمل حتى حليب الأطفال واللقاحات الخاصة بالأطفال وأدوية الأمراض المزمنة، مما يؤدي إلى مضاعفات خطرة على حياة المرضى، بخاصة أمراض القلب وضغط الدم المرتفع، والسكري والدهون والكوليسترول.
تسمم غذائي
التداعيات الصحية والبيئية في قطاع غزة، أقلقت مختصين إسرائيليين لما قد تحمله من مخاطر عابرة للحدود قد تصل إلى المدن الإسرائيلية، وبحسب أميت جروس مدير معهد “زوكربيرغ” لأبحاث المياه الذي يعتبر أحد معاهد “جاكوب بلاوستاين” لأبحاث الصحراء في جامعة بن غوريون، فإن عديداً من المخاطر البيئية والصحية في غزة تتطلب التعامل معها، وأولها النفايات. وأضاف جروس في تقرير لصحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية، أنه “كلما طال أمد بقاء النفايات، أدى ذلك إلى تلوث بيئي ومخاطر صحية على المديين القصير والطويل فتسربها إلى المياه الجوفية وتلوثها، يجعلها غير آمنة للاستخدام والشرب”. وحذر جروس من أنه إذا دُمرت شبكة الصرف الصحي وبنيتها التحتية، فإن ذلك يمثل خطراً إضافياً للتلوث البكتيري والفطري الذي يمكن أن يؤثر سلباً على الزراعة والأسماك في البحر، لأن الأغذية المزروعة بالماء أو في التربة الملوثة بالبكتيريا الضارة قد تؤدي لحالات تسمم غذائي. في ذات الوقت، عندما تغسل الأمطار هذا التلوث إلى البحر الأبيض المتوسط، فإنها تؤثر على جودة المياه وتؤثر على الأسماك وبالتالي، فإن الأفراد الذين يستهلكون هذه الأسماك معرضون للإصابة بالمرض”.
مما لا شك فيه أن الأمراض لعبت دوراً كبيراً في الحروب في القرون الماضية. فخلال الحرب الأهلية الأميركية، كان ثلثا الوفيات المقدرة للجنود سببها الالتهاب الرئوي والتيفوئيد والدوسنتاريا والملاريا. وفي عام 1994، قتل مرضا الكوليرا والدوسنتاريا الناجمان عن المياه غير النظيفة في مناطق الصراع، أكثر من 12 ألف لاجئ رواندي في ثلاثة أسابيع فقط في يونيو 1994.