ينطلق العام الجديد في لبنان بزحمة موفدين دوليين وإقليميين وزخم المفاوضات الدبلوماسية على وقع الحرب والتهديدات الإسرائيلية بتوسيع رقعتها لتطاول العمق اللبناني، إذ يتوقع زيارات لكل من الموفد القطري جاسم بن فهد آل ثاني، والموفد الأميركي آموس هوكشتاين، والموفد الفرنسي جان إيف لودريان، في محاولة لـ”فكفكة” العقد الأمنية والسياسية ضمن مهلة ثلاثة أشهر وفق أكثر من مصدر مواكب للحراك العربي – الدولي.
وتشير المعلومات إلى أن زيارات الوفود الثلاثة تأتي في سياق العمل المشترك ضمن “اللجنة الخماسية الدولية” (وتضم السعودية ومصر وقطر وفرنسا وأميركا)، في حين يركز كل من الأطراف الثلاثة خلال زيارته على زاوية معينة من الملفات المتداخلة، إذ يسعى الموفد القطري لاستكمال مبادرته في ملف الرئاسة اللبنانية، في حين باتت أولوية الموفد الفرنسي مرتبطة بتطبيق القرار الدولي 1701، أما الموفد الأميركي فيعمل على ملف ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل وفك النزاع على النقاط الـ13 العالقة بينهما، إضافة إلى طرح وضع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا تحت إدارة دولية لحين ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا.
الحكومة والمقايضة
وفي وقت تتخوف بعض القوى السياسية من أن تقع “المبادرات” المتعلقة بتنفيذ القرار 1701 بفخ “حزب الله” الذي يسعى برأيها إلى ربط تنفيذ القرار بمقايضة على رئاسة الجمهورية تحت عنوان “تطبيق القرار يحتاج إلى سلطة لبنانية تطمئن الحزب”، إلا أن مصدراً دبلوماسياً فرنسياً يؤكد أن هناك فصلاً تاماً بين المبادرة المتعلقة بالرئاسة والوساطة المرتبطة بتنفيذ القرار الدولي 1701 الذي وافق عليه الحزب وإسرائيل عام 2006.
وكشف المصدر عن إصرار إسرائيلي على تطبيق القرار، إضافة إلى حل الجمعيات التابعة للحزب والموجودة على الحدود تحت مسميات بيئية واجتماعية مثل جمعية “أخضر بلا حدود”، التي باتت مكشوفة أنها تنظيمات عسكرية تابعة للحزب، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة أدرجت هذه المنظمة على لوائح العقوبات بعد ثبوت ارتباطها بأعمال أمنية ومالية لصالح “حزب الله” في الجنوب.
وشدد المصدر الدبلوماسي الفرنسي على أنه ابتداء من بداية 2024 لم يعد هناك من مبادرات منفصلة عن “الخماسية الدولية” التي توافقت على ما بات يعرف بـ”الخيار الثالث”، أي رئيس من خارج الاصطفافات السياسية التقليدية ويحمل برنامجاً إصلاحياً سياسياً واقتصادياً، ولا يشكل انتخابه انتصاراً لمحور على آخر.
ولفت إلى أن فكرة “المقايضة” برئاسة الجمهورية سقطت باعتبار أنها منصب ثابت لمدة ست سنوات في حين أن المناصب الأخرى وجميع الاتفاقات متغيرة، وبالتالي لا يمكن المساومة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة أو حتى القرارات الدولية، مضيفاً أن المقايضة قد تكون ممكنة على مستوى الحكومة التي يمكن إقالتها في حال عدم التزام فرقاء ضمنها بتعهدات معينة.
وفي هذا السياق نفى رئيس مجلس النواب نبيه بري، وفق ما نقلت عنه صحيفة “الشرق الأوسط” اليوم الثلاثاء، وجود صفقة تقضي بمقايضة تطبيق القرار 1701 برئاسة الجمهورية لتكون من نصيب “حزب الله”.
جوزيف عون
ويؤكد الصحافي علي حمادة أن هناك زيارة مرتقبة للودريان نهاية يناير (كانون الثاني) الجاري، مشدداً على جدية تحريك ملف الرئاسة اللبنانية في هذه المرحلة، لاسيما أنه بات مرتبطاً بحرب غزة وتداعياتها على لبنان من خلال المناوشات الحدودية بين “حزب الله” وإسرائيل في الجنوب، والمخاوف من تفاقم الأوضاع وإمكان توسع الحرب، وهو أمر تسعى الوساطات الدولية إلى احتوائه وتجنيب لبنان حرباً طاحنة.
ويرى حمادة أن قائد الجيش العماد جوزيف عون هو الأوفر حظاً بين الأسماء المطروحة للرئاسة كونه يتمتع بمروحة واسعة من التأييد العابر للأحزاب والطوائف، ولديه تأييد مسيحي عارم، بينما يعاني منافسه زعيم “تيار المردة” سليمان فرنجية من نقطتي ضعف أساسيتين، هما افتقاره للتأييد المسيحي، وكونه مرشح “الثنائي الشيعي” (حزب الله وحركة أمل)، ولفت حمادة إلى أن جوزيف عون يستوفي الشروط التي وضعتها اللجنة الخماسية التي تعمل على تسوية مقبولة للرئاسة اللبنانية.
الملفات الإقليمية
من جانبه اعتبر الكاتب السياسي سمير تويني أن الملف اللبناني أصبح مرتبطاً بمجمل الملفات الإقليمية التي تحتاج إلى حل في القريب العاجل بدءاً بغزة مروراً بسوريا واليمن والعراق، لافتاً إلى أن هذه الملفات مرتبطة بالعلاقات الأميركية – الإيرانية. أما بالنسبة إلى لبنان، فيقول تويني إن المبادرات القائمة اليوم مهتمة أولاً بعودة السلام للجنوب، أي التوصل إلى حل يؤدي لوقف القتال بين “حزب الله” وإسرائيل، وهذه المبادرات تنطلق من فكرتين ومن تعاون فرنسي – أميركي لتجنيب التصعيد العسكري على الحدود الجنوبية.
والفكرة الأولى وفق تويني هي العودة لتطبيق القرار الدولي 1701 وسحب السلاح من الجنوب، وتراجع الحزب من المناطق الحدودية لمنع إسرائيل من القيام بعملية عسكرية قد تدمر لبنان. أما الفكرة الثانية فتقوم بالتوازي مع الأولى على مساعي الموفد الأميركي آموس هوكشتاين من أجل حل العقد الـ13 لتثبيت الحدود بين لبنان وإسرائيل بشكل نهائي، مما يمكن أن يؤدي إلى التطبيع بين البلدين.
وبرأي تويني فإن “الانتخابات الرئاسية التي تراجعت أهميتها سيؤجل التوافق في شأنها إلى ما بعد الشروع بتنفيذ عودة السلام للبنان، ليأتي الرئيس الجديد لتنفيذ هذه الخطة”.
الخماسية الدولية
أستاذ القانون الدولي في جامعة باريس الدكتور محي الدين الشحيمي، اعتبر أنه بعد طي مرحلة التخوف من الارتباك في المؤسسات الأمنية، لاسيما بعد أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، أصبح الواقع الأمني في لبنان أولوية مهمة. وقال “شهدنا في المرحلة السابقة إعطاء أهمية للمعيار والاستقرار الأمني الذي يعتبر المدخل للاستقرار السياسي على الساحة اللبنانية، وطويت مرحلة التخوف الأمني بالتمديد الذي أقره البرلمان لقائد الجيش وقادة المؤسسات الأمنية”.
وتوقع الشحيمي أن يشهد لبنان في الأسابيع المقبلة زخماً جديداً من الزيارات وحراك دولي مختلف عن الحراك الذي شهدناه في المرحلة السابقة، بما في ذلك زيارات المبعوثين والوسطاء والشخصيات الدولية والدبلوماسية، مشيراً إلى أن فرنسا باتت “تتكلم حالياً بلغة الخماسية الدولية خلافاً لما كان عليه مسارها العام الماضي”.
مبادرة بري
وبموازاة الحراك الدولي تشير المعلومات إلى أن رئيس مجلس النواب نبيه بري يجري اتصالات مع معظم القوى السياسية في محاولة لإطلاق مبادرة محلية تلاقي المحاولات العربية والدولية لتحريك ملف الرئاسة، إلا أنه حتى الآن يصطدم برفض المعارضة التي تعتبره طرفاً وليس حكماً، كونه لم يبادر ويتراجع عن ترشيحه بالشراكة مع “حزب الله” رئيس تيار المردة سليمان فرنجية.
وللالتفاف على العقبة التي يواجهها بري مع المعارضة، كشفت المعلومات أن النائب غسان سكاف يعمل على إطلاق مبادرة تفصل ملف الرئاسة في لبنان عن الحرب في غزة التي برأيه ستستغرق أشهراً، إذ يتخوف من أن يحضر لبنان على طاولة التسوية كطرف يتم التفاوض عليه في غياب رئيس.
وتشير المعلومات إلى أن سكاف سيبدأ اتصالات مع كل الأطراف السياسية اللبنانية من موالاة ومعارضة، وأطراف وسطية، لتأتي المبادرة مواكبة لما سيحصل خارجياً من تطورات أمنية وسياسية يتأثر بها لبنان بشكل مباشر.
وفي السياق أكد النائب وضاح صادق أن بري سيطرح مبادرة رئاسية جديدة، آملاً في أن تكون مبنية على الدستور اللبناني وقائلاً، “إذا طبقنا الدستور يمكننا انتخاب رئيس غداً”، متمنياً ألا تكون مبادرته تكراراً لموضوع الحوار الذي سبق ورفض لأنه ضرب للدستور. وأضاف “إذا دخلنا في الحوار على رئيس للجمهورية، سنكون مجبرين على الحوار من أجل رئيس للحكومة وحاكم مصرف لبنان وغيرها من المراكز، وهذا الأمر يتعارض مع الدستور اللبناني”.