يشهد لبنان معدلات مرتفعة من حالات الانتحار في صفوف الشباب. وشهد عام 2023 قفزة نسبية بأعداد الضحايا مقارنة بالعام السابق، إذ بلغت 170 حالة انتحار، مقارنةً بـ138 حالة في عام 2022. ويحاول الباحثون اكتشاف الدوافع والأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة، حيث تتراوح الفرضيات بين تأثير الأزمة الاقتصادية والمالية، والظروف الاجتماعية للأفراد، إلى جانب تأثير وسائل التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي على الصحة النفسية للمستخدمين.
العالم الافتراضي فضاء للتفاعل
خلال الأيام الماضية، تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع قصة انتحار أحد الشبان في لبنان (القاصر ع. ر). وعبّر هؤلاء عن تضامنهم مع الطفل الذي لجأ إلى هذا الفعل للتعبير عن موقف احتجاجي للتعبير عن سخطه من العائلة.
وفي وقت لا يمكن التحقق من الأسباب الحقيقية لحوادث الانتحار، أحاطت علامات استفهام بظروف وفاة بعض الشبان خلال عام 2023. فقد شهد شهر أبريل (نيسان) انتحار شاب سوري لتجنب ترحيله قسراً من لبنان. أما في يوليو (تموز) فربط البعض حادثة انتحار شاب لبناني في حارة حريك بوصول “جماعة القربان” إلى لبنان، التي “تتضمن طقوسها انتحار أعضائها بالقرعة”. وبين هذا وذاك، يبقى العامل الاقتصادي شديد الأثر على حياة المواطنين.
الأرقام مرتفعة
وشهد عام 2023 أرقاماً مرتفعة من حالات الانتحار في لبنان، بازدياد 32 حالة عن عام 2022. وأشار محمد شمس الدين الباحث في الشركة “الدولية للمعلومات” إلى “زيادة بنسبة عالية تساوي 23 في المئة، وهذا أمر لافت للغاية، يجب الوقوف عنده”. ويوضح شمس الدين “سجل شهر يوليو أكبر نسب الانتحار، وحدثت 18 حالة، وحل مارس (آذار) ثانياً بـ17 حالة”.
وأكد شمس الدين أن ثمة أسباباً متعددة لزيادة حالات الانتحار، ويأتي في مقدمها الأوضاع الاقتصادية، إذ إنه “في السنوات الأولى للأزمة، كان المواطنون يمتلكون بعض المدخرات التي اضطروا لإنفاقها وتأمين الصمود. ولكن بعد مرور أربع سنوات على أزمة الانهيار، فقد الناس القدرة على استمرار الحياة الحرة والكريمة. وهنا، لا يمكن إغفال عملية حجز الودائع في المصارف اللبنانية”، مؤكداً وجود أسباب أخرى يمكن وضعها في خانة “الأسباب الشخصية”، كتلك الحالات الناجمة عن الحياة الغرامية مثلاً.
يجري شمس الدين مقارنة مع السنوات السابقة، ففي عام 2015، بلغ عدد حالات الانتحار 138 منتحراً، وتراجع في 2016 إلى 128 حالة، وأصبح العدد 143 في عام 2017، وارتفع إلى 157 في 2018، وبلغ 170 في 2019، وهو رقم مطابق للسنة المنقضية 2023. وتراجع في 2020 إلى 150 منتحراً، و145 حالة انتحار في 2021، وصولاً إلى 138 حالة في 2022.
أسباب مختلفة
يتعامل علم النفس مع حالات الانتحار بصورة فردية، حيث يفترض تشخيص كل حالة بصورة مستقلة. وتعتقد الأخصائية النفسية الدكتورة دورين ونيس بوجود رابط بين الوضع الاقتصادي وارتفاع حالات الانتحار في أوساط الشباب، حيث “لا يجد هؤلاء آفاقاً للمستقبل، وإمكانية تأسيس عائلة أو فرصة الحصول على عمل منتج ومثمر، واقتناء بعض الأشياء الأساسية كشراء السيارة أو تقسيط البيت بسبب وضع اليد على الودائع المصرفية وعدم وجود قروض مالية”، مضيفة أن “لهذه الأزمة أثراً عميقاً على أرباب العائلات، حيث يعجز الأب عن تأمين الحد الأدنى من حاجات أطفاله. والشعور بالتقصير قد يقود البعض لهكذا قرار سلبي”.
كما تشير ونيس إلى أسباب أخرى قد تقود إلى الانتحار، حيث تمهد بعض الظروف النفسية لهذا السلوك. وتقول “يبدأ الأمر ببلوغ مرحلة الاكتئاب، التي توَّلد لدى المكتئب الجرأة على هذا الفعل. فهو يشعر بأن الدنيا أقفلت كل أبوابها في وجهه”. وتوضح أن “هناك أسباباً مختلفة للاكتئاب، التي تندرج في فئتين أساسيتين: العوامل الذاتية- الشخصية وهي خاصة بكل شخص، والعوامل الموضوعية العامة”.
تأثير “السوشيال ميديا”
كما يظهر تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على الحالة النفسية للشبان، والمستخدمين، حيث صنف الاتحاد الدولي للطب النفسي “الإدمان الرقمي” ضمن فئة الأمراض النفسية. وتلفت ونيس إلى “تأثير نفسي للأجواء المثالية المصطنعة التي تسود مواقع التواصل الاجتماعي، ويبدأ المراهق والشاب المقارنة بين أحواله الحقيقية، وتلك المرتجاة. وهنا، تتولد حالة من عدم الاكتفاء الذاتي، وأوضح دليل على ذلك، طموح أكثرية المراهقين ليصبحوا مشهورين ومؤثرين على السوشيال ميديا من أجل جني المال والربح السريع”.
وتميّز ونيس بين “العزلة الناجمة عن التواصل الاجتماعي والحياة المعاصرة من أجل متابعة الأفلام عبر المنصات الرقمية”، و”بين الانعزال الذي يصاحبه اكتئاب وقلق وأفكار تشاؤمية”.
العائلة “مهمة”
لا يأتي قرار الانتحار فجأة، وإنما هناك بعض السلوكيات التي تمهد له. لذلك، يفترض على الأهل ملاحظة التغييرات على سلوك أبنائهم، إذ “يبدأ الطفل باعتزال محيطه، وتسود الأفكار السوداوية والتشاؤمية، والتي قد يعبر عنها بصورة متكررة. كما يفقد الشغف والشعور بالسعادة عند ممارسة الأشياء التي كان يحبها، وتندرج ضمن تفضيلاته” بحسب ونيس، التي تنصح بالتحرك عند ملاحظة أي تغيير كبير على سلوكيات الابن أو الشريك أو أحد أفراد العائلة. وتعتقد بوجوب “طلب التدخل النفسي- الطبي” بصورة مباشرة لاستدراك المخاطر، وتجاوز “النظرة النمطية السائدة في المجتمع للطب النفسي، لأن حواليى 25 في المئة من الناس، باتوا يحتاجون لتدخل نفسي”.
وتعتقد ونيس بضرورة اللجوء إلى الطبيب النفسي لتحديد “فداحة” الحالة، وإذا كان تداركها ممكناً من خلال العلاج النفسي ومن دون اللجوء إلى وصف الدواء، ويمكن إحالتها إلى معالج نفسي لتجاوز حالة الاكتئاب. وترى ونيس أن “التأخر في التدخل النفسي قد يؤدي إلى تفاقم الاكتئاب وصولاً إلى الانتحار”، مشددة على وجود أثر إيجابي للتدخل النفسي على الصحة النفسية للشبان، “وقد يتجاوز النجاح أحياناً نسبة 70 في المئة”. من هنا، تتمسك ونيس بأهمية توعية الأهل، نظراً للدور الكبير الذي يمكن لعبه من قبلهم لإحاطة الشخص المعرض للاكتئاب، واحتضانه ومساندته لتجاوز هذه التجربة.
في هذا السياق، لا بد من التأكيد على الآثار المتعددة لحالة الاكتئاب، فهي لا تؤدي بالضرورة إلى الانتحار، وقد تؤدي إلى سلوكيات وردود فعل مختلفة. وتتحدث ونيس عن “إمكانية انتهاج سلوك عدواني تجاه الآخرين، أو محاولة إيذاء الذات، وخصوصاً لدى شريحة المراهقين، وهي من الأمور الآخذة في الارتفاع خلال السنوات السبع الأخيرة”، مشددة على “ضرورة الوعي لدى الأهل للتعامل مع الطفل في مرحلة المراهقة، وتوعيتهم للاستجابة السريعة حيال الاضطرابات النفسية، لأن معالجة السبب أفضل من معالجة النتيجة”.