تُلملم فاطمة ما تبقى من حاجياتها الملقاة على الطريق، وتركض باكيةً إلى بيت عائلاتها في الحي المجاور لمنزلها في مدينة رهط (جنوب إسرائيل)، ففي يوم ميلادها الثلاثين وبدلاً من الاحتفال والبهجة والحصول على بعض الهدايا، فضل زوجها مفاجأتها بهدية من “العيار الثقيل” بحسب تعبيرها، بدخوله بيت الزوجية بصحبة عروس جديدة أصغر منها سناً. فهل يوجد عند بدو النقب قانون حظر تعدد الزوجات يحمي فاطمة التي كابدت لسنوات من أجل إتمام دراستها الثانوية وتطمح لدراسة الحقوق، لم تتحمل هول الصدمة، وانهالت على العروسين بكيل من الشتائم والصفعات، لتجد نفسها بعد دقائق على قارعة الطريق والدماء تنزف من أنفها وشفتيها، فزوجها الأربعيني وبعد أن اعتدى عليها بالضرب مدة 15 دقيقة وتسبب لها بكدمات قوية في جسدها، ألقى بها وبملابسها في الشارع، قائلاً “الليلة ليلتي، ستعودين وحدك بعد أن أقضي شهر العسل”.
حبس وغرامة تعدد الزوجات
الحزن الذي اعتصر قلب فاطمة لشعورها بالإهانة، تحول إلى غضب بعدما رفضت عائلتها فكرتها الطلاق كلياً، معتبرة أن ارتباط زوجها بامرأة أخرى “ذنبها”، كيف لا ووالدها نشأ وترعرع في قبيلة بدوية يُقدِم معظم رجالها على تعدد الزوجات. وذلك على الرغم من أن هناك قانون حظر تعدد الزوجات في إسرائيل وهذا يُعتبر غير قانوني منذ عام 1977، حيث أصبحت هذه العادة جريمة يعاقب عليها القانون، وتصل عقوبتها إلى السجن 5 سنوات مع دفع غرامة مالية.
فاطمة التي لم تشارك اسم العائلة لحمايتها وعائلتها، قالت لـ”اندبندنت عربية”، “لا يمكن للزوجة الأولى الحصول على الطلاق بسبب ثقافة العيب، ولا يمكنها التزوج مرة أخرى لذات السبب. على الزوجة الأولى التي قد تُهان أو تُضرب أن تبقى متاحة في حال قرر الرجل العودة إليها. في المجتمعات البدوية، يتزوج الرجل وينجب أطفالاً ومن ثم يقرر إحضار زوجة أخرى، تاركاً الأولى من دون مال أو شهادة أو مصدر رزق لإعالةِ نفسها وأولادها. اللوم الكبير يقع على عاتق المجتمع ككل، الذي يرى محنة النساء البدويات ولا يضع حداً لتجاهل تطبيق القانون بقوة صارمة. النساء البدويات يعانين وحدهن من تعدد الزوجات المستفحل في المجتمع البدوي”.
طلاق وهمي
وعلى الرغم من المصادقة على قانون حظر تعدد الزوجات في عام 1977، فإن تطبيقه بدأ في عام 2017، عقب تعليمات مستشار الحكومة القضائي، التي أوجبت تطبيق القانون وتشديد العقوبة على المخالفين. مندوبو الشرطة الإسرائيلية والنيابة العامة أفادوا في جلسة عُقدت في وزارة العدل خلال مايو (أيار) الماضي، بأن الرجال متعددي الزوجات ينجحون في التملص من العقاب بواسطة التلاعب بالقانون بطرق مختلفة، من بينها تسجيل هذا النوع من الزيجات على أنها “مساكنة”، إضافة إلى “الطلاق الوهمي”. وعلى الرغم من مرور ثلاثة أعوام وأكثر على صدور تعليمات مشددة من مستشار الحكومة القضائي بضرورة تطبيق القانون، فإن الشرطة والنيابة معاً اعترفتا بأنهما عجزتا حتى اللحظة عن تطبيق قانون حظر تعدد الزوجات في المجتمع البدوي.
وبحسب صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، فإن ميطال غراف، مندوبة قسم التحقيقات والاستخبارات في الشرطة، أفادت بأن “الرجال متعددي الزوجات لا يسجلون هذا النوع من الزيجات في المحاكم الشرعية، بل يتوجهون إلى السلطات المسؤولة مزوَدين بوثيقة صادق عليها محامٍ تشير إلى أنهم أزواج بالمساكنة. وبذلك يحظون باعتراف رسمي وبامتيازات مالية تقدمها الدولة للمتزوجين”. وأضافت “طرأ انخفاض ملحوظ على عدد ملفات هذه المخالفة، وذلك لأن تعريف المخالفة محدود ومنوط بوقوع الزواج بالفعل، لكن متزوجين كثراً يحتمون بـتعريف علاقتهم على أنها زواج بالمساكنة، وذلك لأنها ليست مخالفة جنائية”.
عار مجتمعي
من جهة أخرى، تضع جمعيات نسوية وحقوقية على سلم أولوياتها الحد من ظاهرة تعدد الزوجات في المجتمع البدوي، وذلك لتبعاتها السلبية على مكانة المرأة والطفل والعائلة والمجتمع ككل، حيث أطلقت العديد من المبادرات الجماهيرية وأجرت مئات اللقاءات والمحاضرات مع النساء البدويات والأخصائيين، بهدف رفع الوعي بأخطار هذه الظاهرة، ونظمت حملات إعلامية في هذا الشأن، إضافة إلى مطالبتها المستمرة بتطبيق القانون ومعاقبة من يقوم بخرقه، ومن يساهم في ذلك. وتؤكد تلك الجمعيات أن “على سلطات تطبيق القانون وفي ظل الوضع الحالي، إما مطالبة الشرطة بجمع أدلة تثبت أن المتزوجين بالمساكنة متزوجون بالفعل ويحتالون على القانون، أو تغيير قانون حظر تعدد الزوجات”.
وقالت الناشطة النسوية في المجتمعات البدوية في النقب، صفاء شحادة، إن “المجتمع البدوي مجتمع محافظ جداً، ويرى في زواج المساكنة الإسرائيلي خروجاً عن الدين والعُرف، ومن المستحيل العيش بالمساكنة في المجتمع البدوي من دون زواج شرعي خفي عن أعين السلطات، والشرطة بدورها متأكدة من أن الرجال متعددي الزوجات يكذبون ويحتالون بخصوص طبيعة علاقاتهم مع شريكاتهم”. وتابعت “تعدد الزوجات في الإسلام يسمح للرجل بالزواج من أربع نساء في الحالات التي تكون فيها الزوجة مريضة أو عاقراً أو لم تنجب، لكن ظاهرة تعدد الزوجات واسعة الانتشار في المجتمع البدوي لم تعد تتعلق بالدين، بل بعادات مجتمعية متوارثة وثقافة ذكورية سائدة منذ عقود. ووجدنا من خلال زيارات منزلية متكررة لإخصائيين اجتماعيين ومسؤولين آخرين، أن هناك حوالى 30 في المئة من العائلات البدوية في القرى المعترف بها (عددها 12 مدينة وبلدة) يوجد فيها تعدد زوجات، فيما يصل الرقم إلى قرابة 50 في المئة في القرى غير المعترف بها (39 قرية) والتي لا تعتبرها دولة إسرائيل قانونية. تطبيق القانون بجدية سيكون له أثر كبير وإن لم يكن ظاهراً، ويجب العمل على الجيل الصغير في المدارس للتوعية تجاه مخاطر هذه الظاهرة وارتفاعها، لكن للأسف تم التحريض ضد الجمعيات النسوية في المساجد هناك بأنها تحرض على الدين، بل ومُنعنا من دخول المدارس لتنفيذ برامج توعية ثقافية للطلاب، لأن مديري تلك المدارس ببساطة متعددي الزوجات”.
وروت شحادة أن “نسب الزواج المبكر (أقل من 18 سنة) بين النساء البدويات تصل إلى 35 في المئة وفي هذا مخالفة قانونية، كما أن العائلات البدوية تُجبر الفتيات على ترك مقاعد الدراسة عند الصف السابع أو الثامن، فيما تَصل نسب البطالة بين النساء البدويات إلى أكثر من 70 في المئة، وعدد قليل منهن يحظين بفرصة عمل، هذه العوامل مجتمعة تدفعهن إلى الصمت والقول: ظل رجل ولا ظل حيطة. كما يعتبرن الطلاق شبه مستحيل لأنه عند البدو عار قاس عليهن، وسيتم نبذهن من قبل عوائلهن إلى الأبد، وستصبحن وحيدات كلياً وقد تحرمن من رؤية أولادهن، ولا يتجرأن على تبليغ الشرطة عن أزواجهن ليتم القبض عليهم لمخافلتهم القانون، لأن العواقب ستكون وخيمة جداً عليهن”.
لوائح اتهام
ووفق معطيات سجل السكان الإسرائيلي، هناك 6680 رجلاً مُتعدد الزوجات في لواء الجنوب (صحراء النقب تشكل معظم مساحتها وتُعد الأكبر من بين المناطق الإسرائيلية والأقل من حيث عدد السكان)، وزاد عدد هؤلاء الرجال في تلك المنطقة بين عامَي 2017 و2019 بما يعادل 834 رجلاً. ووفقاً للمعطيات، قُدمت لوائح اتهام ضد عدد قليل جداً من الرجال متعددي الزوجات منذ عام 2018، هم الذين تزوجوا بعد صدور تعليمات مستشار الحكومة القضائي في عام 2017.
ويشير تقرير لمنظمة “لافيه” للإدارة السليمة وحقوق المواطن، إلى أن “النياية العامة تغلق غالبية ملفات التحقيق لانعدام أدلة وظروف وحيثيات توجب استمرارها، حيث حولت الشرطة في عام 2018 إلى النيابة العامة 133 مخالفة تعدد زوجات. أما النيابة العامة من طرفها فقدمت لوائح اتهام ضد 16 شخصاً فقط، وفي عام 2019 حولت الشرطة 44 ملفاً، فيما قدمت النيابة العامة لوائح اتهام ضد 5 أشخاص فقط، أما في عام 2020، فحولت الشرطة إلى النيابة العامة 58 ملفاً، بينما قدمت الأخيرة لوائح اتهام ضد 13 شخصاً فقط”.
وأكد نائب لواء الجنوب، ألون آلتمان، بيانات “لافيه”، قائلاً “تستمر ظاهرة تعدد الزوجات بفضل التلاعب بالقانون والتملص من القانون الجنائي، وأكبر دليل على ذلك استمرار حدوث الظاهرة. وعلى الرغم من أن عقوبة ارتكاب مخالفة تعدد الزوجات هي السجن لخمس سنوات، فإن المحاكم تُنزل عقوبات مُخفَفة لا تتعدى السجن لسنة واحدة على المخالفين”. وأشار آلتمان خلال جلسة وزارة العدل في مايو (أيار) الماضي، إلى “إنزال العقوبة بحق تسع حالات تعدد زوجات فقط”. وتابع “فُرضت عقوبة السجن لخمسة أشهر في حالتَين فقط، سبعة أشهر في أربع حالات، ثمانية أشهر في حالتَين، و11 شهراً في حالة واحدة فقط.”
أمهات وحيدات
وتشير مؤسسة التأمين الوطني الإسرائيلية بدورها، إلى أنها “تعامل الأسر متعددة الزوجات، بما في ذلك جميع الزوجات، وكأنها وحدة أسرية واحدة (عائلة موسعة)، في حين أن كل عائلة ممكن أن تكون مختلفة، والقرار حول مكانة العائلة يعتمد على الوثائق الداعمة التي تتضمن البيانات المصرفية وتقارير الدخل والملكية المشتركة. فالرجل وزوجته الجديدة يحصلان على الجزء الأكبر من مخصصات الرفاه التي تُمنح للعائلات صاحبة الدخل المنخفض، ما يعني أن الرجل متعدد الزوجات وزوجته الحديثة وأطفالهما، يحصلون على ما بين 900 و1400 دولار شهرياً بالاعتماد على سن الأطفال، وهو ذات المبلغ الذي قد تحصل عليه عائلة بزوجة واحدة تعاني من ضائقة مالية. لكن بقية الزوجات سيحصلن ما بين 200 و350 دولاراً فقط لكل واحدة منهن، ويتعلق ذلك بأعمارهن وأعمار أطفالهن، وإذا تم التعامل مع بقية الزوجات كأمهات وحيدات، فقد تلبين معايير الحصول على مخصصات الأم الوحيدة، التي تتراوح بين 800 و1000 دولار شهرياً”.
في سياق متصل، تعتبر جمعية “ريغافيم” الإسرائيلية (مستقلة)، بحسب ما نقلت عنها “هآرتس”، أن “ظاهرة الزواج تحت ما يُسمى المساكنة الشرعية في المجتمع البدوي، هي آلية لتجاوز قانون حظر تعدد الزوجات، وجزء لا يتجزأ من منظومة احتيالية للحصول على مخصصات التأمين الوطني. حيث تشكل مخصصات التأمين وعلى ضوء تقاعس وتردد الدولة بتطبيق القانون وعلى ضوء طرق الاحتيال المبتكرة، محرك الظاهرة الإقتصادي”.
ووفقاً لوزارة الخارجية الإسرائيلية، يوجد حوالى 367 ألفاً من البدو في إسرائيل جميعهم من المسلمين السنة، منهم 317 ألف بدوي يعيشون في صحراء النقب. وتتيح الحياة في الصحراء للبدو ممارسة نمط حياتهم التقليدي بعيداً عن مؤثرات التمدن.
تعرف على المزيد من اخبار الشرق الأوسط المباشرة حصريا على موقع سامري الاخباري.