من المنتظر أن تكون الانتخابات الرئاسية في روسيا – بعكس نظيرتها الأميركية – مملة ومحسومة النتائج سلفاً، حتى لو كانت أوراق الاقتراع تتضمن 4 أو 6 أسماء والتي عادة ما تكون لزعماء أحزاب تتسابق على الولاء للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يصادف هذا العام مرور ربع قرن على وجوده في الحكم.
إلا أننا هذه السنة قد نكون أمام احتمال وجود مرشح لا تنطبق عليه صفات المرشحين الذين ينتقيهم الكرملين لإضفاء صورة تنافسية على السباقات الانتخابية. مرشح أعلن أنه يعارض تدمير بوتين لمؤسسات الدولة ووصف سياسته الكارثية في أوكرانيا بأنها “خطأ مميت” وأعلن معارضته العداء مع الغرب.
وقدم المرشح المحتمل هذا رؤيته حول روسيا بشكل غير متعمق في بيان بعنوان “مكانة روسيا في القرن الحادي والعشرين”، إذ دعا إلى تقارب مع أوروبا والحذر من الوقوع تحت نفوذ الصين.
لا بد من القول إن ظهور بوريس ناديجدين كمرشح محتمل يأتي كمفاجأة إلى حد ما، فهو ليس شخصية إعلامية جداً أو معارضة جداً أو اسماً متداولاً بين أسماء معارضين آخرين مثل أليكسي نافالني، إيليا ياشين، ميخائيل خودوركوفسكي أو غيرهم. في الحقيقة، قبل إعلانه نيته الترشح لم يكن اسم ناديجدين متداولاً في عالم السياسة الروسية ككل فما بالكم بالأوساط الليبرالية والمعارضة.
في الحقيقة، كان ناديجدين لسنوات ضيفاً في برامج “توك شو” السياسية على القنوات الرسمية والمعروفة بصخبها وحدتها ونبرتها المتعجرفة، وبطبيعة الحال كان دوره في مثل هذه البرامج إثبات أن الإعلام الروسي يمنح منبراً للأصوات “الشاذة” المقبولة (فهو محسوب على الليبراليين المهادنين للحكم القائم) والتي بكل الأحوال يجري إعدامها كلامياً وبأقبح الطرق على شاشات التلفزة هذه. على أن الحقيقة تقال إن ناديجدين لطالما احتفظ برباطة جأشه وتكلم بما يعتقد به صراحة، إذ قال في مايو (أيار) الماضي في أحد البرامج على الهواء مباشرة “في ظل النظام السياسي الحالي، ليست لدينا فرصة للعودة إلى أوروبا. نحتاج فقط إلى اختيار قيادة أخرى للبلاد من شأنها أن توقف هذا الوضع مع أوكرانيا”.
وتعود مسيرة ناديجدين السياسية إلى أوائل التسعينيات حين انتخب نائباً في إحدى المجالس المحلية في مقاطعة موسكو. ثم عمل بين عامي 1997 و1998 في إدارة الرئاسة الروسية، وكان أقصى ما بلغه هو انتخابه نائباً في الدوما (مجلس النواب الروسي) عام 1999 عن حزب يميني ليبرالي هو “اتحاد القوى اليمينية”، وقد استمر في صفوف اليمين الليبرالي حتى انتقل عام 2008 إلى حزب “القضية العادلة” (برافوي ديلو). لكنه منذ خروجه من الدوما عام 2003 – بعد ولاية واحدة فقط – لم يحتل أي مناصب عامة مهمة، وفشل في الفوز في عدد من الانتخابات التي شارك فيها.
ومن أجل تأمين مشاركته في السباق الرئاسي، كان أمام ناديجدين الذي ترشح عن حزب يميني وسطي مغمور وموالٍ للحكم هو “المبادرة المدنية”، عوائق بيروقراطية جمة، أهمها وليس آخرها تجميع 100 ألف توقيع من أكثر من 40 مقاطعة مختلفة (يمنع جمع أكثر من 2500 توقيع في دائرة إدارية واحدة)، وهو ما تمكن منه بالفعل في الوقت المحدد. وفي الحقيقة تحولت مراكز حملة ناديجدين في مختلف أنحاء روسيا إلى تجمعات لأشخاص ميؤوسة من الوضع في روسيا وفي الوقت نفسه مغتبطة من بصيص الأمل الذي توافر في إمكانية ترشح شخصية تعارض الحرب. كما انتشرت صورة زوجة أليكسي نافالني وهي تضع توقيعها دعماً لترشيحه.
طبعاً هذا الأمل ليس مرتبطاً ولا بأي شكل بوجود فرصة لدى ناديجدين للفوز لكنه مرتبط بتلك الحاجة لدى العديد من المواطنين بالتعبير عن رفضهم لما يجري في بلادهم من دون أن يكون شكل هذا التعبير تهديداً لهم. وظاهرة الحشود المصطفة أمام المراكز بدت كوسيلة شبه أخيرة للتعبير عن هذا الرفض في وقت أصبحت كل الأشكال الأخرى من التعبير غير قانونية وتهدد المرء بالغرامة أو السجن والأمثلة لا نهاية لها.
ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، المعارضة الروسية وبخاصة تلك التي في الهجرة القصرية والتي نادراً ما اتفقت على برنامج أو مرشح أو استراتيجية ما، كلها فرداً فرداً دعت للذهاب والتوقيع لمصلحة ناديجدين ودعمته في سعيه إلى السباق الرئاسي.
وبالعودة إلى التواقيع التي تمكن ناديجدين من جمعها فعلاً، أعلنت اللجنة المركزية للانتخابات في روسيا أن أكثر من 15 في المئة من التواقيع المجمعة غير صالحة لسبب أو لآخر، ومنحت ناديجدين حتى 10 فبراير (شباط) لتصحيح الأمور وإلا سيرفض طلبه.
وفيما تقوم حملة ناديجدين بإعادة فحص التواقيع، والاعتراض على قرار اللجنة، فإن المراقبين في روسيا يتحدثون عن صراع بين مراكز القوى في الكرملين بين مؤيد ورافض للسماح لمرشح معارض بخوض الانتخابات.
وأشار الصحافي البارز ميخائيل فيشمان إلى أن الحملة الدعائية المستمرة ضد ناديجدين – كان اتهم من قبل وجوه إعلامية روسية رسمية بأنه مدعوم من الاستخبارات الأوكرانية وخودوركوفسكي – تعني أن طلبه للتسجيل كمرشح رئاسي سيُقبل. ويضيف “ربما قرر الكرملين أن هزيمة ناديجدين ستكون أكثر فعالية من إزاحته من الانتخابات”، وبرأيه، سيُسمح لناديجدين بالمشاركة في الانتخابات من أجل جعله هدفاً للدعاية واستهدافه بـ”التعبئة ضد العدو الداخلي” لأن سياسة بوتين تحديداً تقوم على التحول “إلى حرب مع الخونة في الداخل”.
من جهته، اعتبر الخبير السياسي دميتري أوريشكين أن المواطنين الذين يدعمون ناديجدين يدركون أنه لن يصبح رئيساً ولا يستطيع ذلك لأن “غالبية الشعب تؤيد بوتين حقاً”.
إلا أن الصدمة بحسب أوريشكين ستكون “إذا حصل ناديجدين على 7 أو 10 في المئة من الأصوات لأنها ستُعتبر علامة خطيرة بالنسبة للكرملين. علامة على وجود خلل في الطقوس الانتخابية، ودليل على وجود احتمال لظهور شخص يمكنه أن يدعي بأنه بديل، ولكن لا مكان لأي بديل” في الطقوس الانتخابية/ السياسية التي يديرها الكرملين.
يُشار إلى أنه وفقاً لاستطلاع أجرته جهة مستقلة “راشيان فيلد” (الساحة الروسية) في الفترة من 27 إلى 30 يناير (كانون الثاني)، وصل التأييد لــبوريس ناديجدين خلال الشهر الأخير إلى 10 في المئة بين المستعدين للتصويت في الانتخابات والذين قرروا بالفعل.
وتشهد روسيا في الفترة الممتدة بين 15 و17 مارس (آذار) انتخابات رئاسية يشارك رسمياً فيها حتى اللحظة 3 مرشحين إضافة إلى الرئيس الحالي فلاديمير بوتين. والثلاثة هم مرشح الحزب الشيوعي، نيكولاي خاريتونوف، ومرشح حزب الليبرالي الديموقراطي، ليونيد سلوتسكي، ومرشح حزب “نوفي ليودي” (الناس الجدد) فلاديسلاف دافانكوف.
وتمتد ولاية الرئيس الروسي لمدة 6 سنوات، وبناءً على التعديل الدستوري في روسيا عام 2020، ستعتبر ولاية الرئيس بوتين في حال فوزه بالانتخابات على أنها الولاية الأولى له في العهد الدستوري الجديد ما يعني أنه مخول بالترشح لولاية ثانية عام 2030 والاستمرار في الحكم حتى عام 2036 حال فوزه في الانتخابات.