ينص المفهوم الاستراتيجي لحلف شمال الأطلسي على أن روسيا تمثل التهديد الأهم والمباشر لأمن الدول الأعضاء في الناتو وللسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية. ويتهم الحلف روسيا بالسعي لإنشاء “مناطق نفوذ والسيطرة على الدول الأخرى من خلال الإكراه والتخريب والعدوان والضم، واستخدام وسائل تقليدية وسيبرانية هجينة – بما في ذلك المعلومات المضللة – ضد الدول الأعضاء في الناتو والدول الشريكة”.
وفي المقابل، ترد روسيا على ذلك بالقول، إن الناتو يخضع لسيطرة الولايات المتحدة وهو أداة للمواجهة، ويشكل هذا الحلف تهديداً لروسيا، لذا تتخذ موسكو الإجراءات المناسبة.
وترى موسكو أن مناورات الناتو “المدافع الصامد” التي تجري في الفترة من فبراير (شباط) إلى مايو (أيار) في أوروبا وفي دول أطلسية محاذية لروسيا، تشكل محاكاة صريحة للحرب معها وتمثيلاً واضحاً لمسرح العمليات العسكرية المفترضة.
وفي بداية أكتوبر (تشرين الأول) 2023، صرح رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي، روب باور، أن الناتو سيعمل على الرد على “غزو” محتمل لروسيا على الجهة الشرقية خلال هذه التدريبات.
ورداً على سؤال لـ”اندبندنت عربية” في 31 يناير (كانون الثاني) حول ما إذا كانت روسيا تعتبر هذه التدريبات تهديداً لأمنها، وما هي الإجراءات التي تتخذها في هذا الصدد؟ قال دميتري بيسكوف الناطق باسم الرئيس الروسي: “حسناً، إن باور يدرك بالتأكيد، مدى فهمنا، بأن الناتو هو أداة للمواجهة. في الواقع، تم تصميم التحالف وتشكيله وتكوينه وتديره الولايات المتحدة حالياً على وجه التحديد كأداة للمواجهة. هذه الأداة، تستمر في القيام بدورها، فهو بالطبع تهديد لنا. هذه هي الطريقة التي نتعامل بها مع هذا الحلف، ويتم اتخاذ التدابير المناسبة لذلك باستمرار، بخاصة على خلفية كيفية قيام التحالف باستمرار بتحريك بنيته التحتية العسكرية نحو حدودنا لعقود عدة”.
وفيما يعلن الناتو أنه لا يسعى إلى المواجهة ولا يشكل أي تهديد لروسيا، لكنه يواصل الرد على التهديدات والإجراءات الروسية بطريقة موحدة ومسؤولة، والعمل بشكل كبير على تعزيز الردع والدفاع لديه، ودعم شركائه، وتعزيز قدرته على الصمود، تتساءل موسكو عن السبب الذي يدفع الحلف لنشر قواته على مقربة من حدودها في كل مكان يجد إليه سبيلاً لذلك، طالما أنه لا يسعى إلى المواجهة ولا يشكل تهديداً لروسيا وأمنها؟
حرب بالوكالة
صحيح أن الناتو ليس في حالة حرب معلنة مع روسيا، لكنه وتحت عنوان دعم أوكرانيا في حقها في الدفاع عن النفس، يقود الحلف مواجهة شرسة مع روسيا. ويدعم حلف شمال الأطلسي مولدافيا وجورجيا السوفياتيتين سابقاً، مع أنهما ليستا من أعضاء الحلف، بحجة الرد على تصرفات روسيا العدوانية تجاههما، ويعلن أنه يواصل تعزيز قوة الردع والدفاع لديه من أجل ضمان عدم وجود مجال لسوء الفهم لدى روسيا، بأن حلف شمال الأطلسي مستعد لحماية كل حليف والدفاع عنه.
منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، حاول حلف شمال الأطلسي بناء شراكات وحوار مع روسيا، بما في ذلك من خلال مجلس الناتو-روسيا، وهو منتدى للتشاور حول قضايا الأمن والتعاون. وتبادلت روسيا والحلف التمثيل السياسي والدبلوماسي، فكانت هناك بعثة روسية في مقر الحلف، وبعثة دبلوماسية للناتو في موسكو.
على مدار أكثر من عقد من الزمن، سعى الناتو إلى بناء شراكة مع روسيا، وتطوير الحوار والتعاون العملي في المجالات ذات الاهتمام المشترك، وهذا ما شجّع الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين، وبعده الرئيس الحالي فلاديمير بوتين لطلب انضمام روسيا إلى صفوف الحلف، لكن الرد الأطلسي عامة، ورد الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون خاصة، أحبط جهود موسكو في هذا الاتجاه وصدمها، لدرجة بدأت معها ثقتها بحلف شمال الأطلسي ونواياه تتراجع بشكل واضح وجلي ومتسارع.
ومع ذلك، ظل الناتو ملتزماً بإبقاء خطوط الاتصال مفتوحة مع موسكو لإدارة الأخطار والتخفيف منها، ومنع التصعيد وتعزيز الشفافية. إلا أن القشة التي قصمت ظهر بعير العلاقات بين الجانبين حلّت في أبريل (نيسان) 2014، عقب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، فعلق الناتو جميع أشكال التعاون المدني والعسكري العملي مع روسيا، مع إبقاء قنوات الاتصال السياسية والعسكرية مفتوحة مواربة.
واليوم، وصلت العلاقات بين حلف شمال الأطلسي وروسيا إلى أدنى مستوياتها منذ انتهاء الحرب الباردة. فالناتو لا يدين فقط بأشد العبارات الممكنة الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا، بل يعتبرها “عدواناً يقوّض بشكل خطير الأمن الأوروبي الأطلسي والعالمي، ويشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي”. وتطالب دول الناتو، روسيا بوقف الحرب فوراً، ووقف استخدام القوة ضد أوكرانيا، وسحب جميع قواتها بشكل كامل وغير مشروط من الأراضي الأوكرانية، وعلاوة على ذلك تقدم مساعدات عسكرية فعّالة وفتّاكة لأوكرانيا، تتضمن صواريخ بعيدة المدى بإمكانها ضرب الأراضي الروسية، وأنظمة دفاع جوي متطورة بينها نظام باتريوت الأميركي، الذي أسقط أحد صواريخه طائرة نقل عسكرية كانت تقل 65 أسيراً أوكرانياً يوم 24 يناير، إضافة إلى مقاتلات “أف-16” الأميركية التي ينتظر أن تتسلمها أوكرانيا قريباً.
تصريحات الناتو الساخنة
الناتو يعتبر ما تسميه موسكو “عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا”، “حرباً غير قانونية ضد هذا البلد الطامح للانضمام إلى الحلف”، ويقول إن “سلوك روسيا يعكس نمطاً من التصرفات العدوانية ضد جيرانها والمجتمع عبر الأطلسي الأوسع”، وإن “روسيا تسعى إلى إنشاء مناطق نفوذ وسيطرة مباشرة من خلال الإكراه والتخريب والعدوان ومحاولات الضم”، وإن “قدراتها العسكرية القسرية وخطابها واستعدادها المؤكد لاستخدام القوة لتحقيق أهدافها السياسية تقوض النظام الدولي القائم على القواعد”.
ويصرح أنه “في ظل سياسات روسيا وتصرفاتها العدائية، لا يمكن للحلف أن يعتبرها شريكاً، لأن سلوكها يشكل التهديد الأهم والمباشر لأمن الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي وللسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية”.
اتهامات بوتين لـ”الغرب الجماعي”
وفي المقابل يتهم بوتين، على وجه الخصوص، “الغرب الجماعي” بالبحث عن فرصة جديدة “لضرب روسيا وإضعافها وتدميرها”. وكان أحد التعريفات الرئيسة التي بنى بوتين حولها خطابه وما زال يبنيه هو “السياسة الاستعمارية للغرب” و”الخطط الاستعمارية الجديدة”.
واتهم الرئيس الروسي “الأنغلوساكسونيين” بـ”تنظيم تفجيرات” على فروع “نورد ستريم” و”تدمير البنية التحتية للطاقة في عموم أوروبا”. ومن السياق الذي تلا ذلك، فإن بوتين كان يقصد الولايات المتحدة من خلال “الأنغلوساكسونيين” في هذه الحالة. والدليل على أن الولايات المتحدة كانت وراء هذا التخريب هو أنه، وفقاً لبوتين، كان “مربحاً” بالنسبة لهم. وقال الرئيس الروسي: “الأمر واضح لكل من يستفيد من هذا. ومن يستفيد من هذا فقد فعل ذلك بالطبع”.
ويؤكد بوتين أنه كان على روسيا أن تتدخل في الأحداث التي وقعت في أوكرانيا عام 2014 لحماية الناس. “لقد شاهد الغرب ذلك بكل سرور، وبهذا المعنى تفوق على الاتحاد الروسي”.
وعن أسباب الصراع في أوكرانيا، في رأيه، يمكن العثور على المتطلبات الأساسية لهذا الحدث مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ويقول “مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بدأ الغرب العمل بشكل أكثر نشاطاً في روسيا مع طابورنا الخامس، الذي كنا نقفز حوله باستمرار، ونربت على رؤوسهم، ونقنعهم، ونضعهم في نوع من المزاج الوطني”.
ويعتقد رئيس الاتحاد الروسي أن كل الجهود كانت تهدف إلى محاولة تفكيك روسيا نفسها. وبالتوازي مع ذلك، عمل الغرب في منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي، على “سحب” الجمهوريات السوفياتية السابقة واحدة تلو الأخرى.
ويعتبر أن “أوكرانيا لعبت دوراً خاصاً في هذه العملية. هناك اعتمدوا على القوميين. سُمح لهم بتحويل النازيين السابقين مثل ستيبان بانديرا إلى أبطال قوميين”.
ويضيف بوتين في السياق، أن سياسة روسيا موجهة نحو جنوب شرقي أوكرانيا، لأنه على حد تعبيره “هذه مناطق تاريخية روسية، يعيش فيها الشعب الروسي بالفعل، بغض النظر عما يكتبونه في جوازات سفرهم”.
مخاوف أوسع نطاقاً
تمتد مخاوف حلف شمال الأطلسي إلى ما هو أبعد من الحرب الروسية ضد أوكرانيا.
وإضافة إلى أوكرانيا، تواصل دول حلف شمال الأطلسي إعلان دعمها لسلامة أراضي وسيادة جورجيا وجمهورية مولدوفا داخل حدودها المعترف بها دولياً، وتدعو روسيا إلى سحب قواتها المتمركزة في البلدان الثلاثة من دون موافقتها.
ويعتقد الحلف أن سلوك موسكو يعكس النمط الذي تتبعه روسيا في تصرفاتها ضد جيرانها والمجتمع عبر الأطلسي على نطاق أوسع. وبرأيه أن هدف روسيا هو زعزعة استقرار الدول الواقعة إلى الشرق والجنوب من حلف شمال الأطلسي، وفي أقصى الشمال، وأن قدرة روسيا على تعطيل تعزيز دول الناتو من خلال ضم دول جديدة إلى صفوفه، عرقلة حرية الملاحة عبر شمال الأطلسي ما يشكل تحدياً استراتيجياً للحلف. وفي مناطق البلطيق والبحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، تواصل روسيا تحدي أمن ومصالح دول الناتو.
أنشطة تقلق الناتو
أول ما يثير قلق الحلف العسكري الباقي من أيام الحرب الباردة، هو:
1 -الحشد العسكري الروسي، إذ إن روسيا تعمل على زيادة قوتها العسكرية ووجودها في مختلف المجالات في مناطق البلطيق والبحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، وتحتفظ بقدرات عسكرية كبيرة في القطب الشمالي.
كما أن القدرات الروسية العسكرية الجديدة، وأنشطتها الاستفزازية، ما زالت تشكل تهديداً للأمن في المنطقة الأوروبية الأطلسية. وتشمل هذه الأنشطة تحركات القوات بالقرب من حدود الناتو، الانتهاكات المتكررة للمجال الجوي لحلف شمال الأطلسي، وتمارين مفاجئة واسعة النطاق من دون إشعار مسبق.
2 -التكامل العسكري مع بيلاروس، فبيلاروس أكثر شريك مقرب وأوثق حليف. وهي قدمت دعماً حاسماً وتواصل توفير الأراضي والبنية التحتية لمساعدة القوات الروسية.
إن التكامل العسكري المتزايد بين روسيا وبيلاروس، بما في ذلك نشر القدرات العسكرية الروسية المعززة في بيلاروس، له آثار على الاستقرار الإقليمي ودفاع الحلف. وسوف يظل حلف شمال الأطلسي يقظاً ويواصل مراقبة التطورات عن كثب، وبخاصة نشر أسلحة نووية تكتيكية وصواريخ “اسكندير” التي يمكنها أن تضرب كافة أنحاء أوروبا، وأنظمة الدفاع الجوي المتطورة، وكذلك قوات الشركات العسكرية الخاصة مثل “فاغنر” في بيلاروس.
3- تحديث القوات النووية، حيث تعمل روسيا على تحديث قواتها النووية، بما في ذلك مخزونها الضخم من الأسلحة المدمرة، وتعمل على توسيع أنظمة الإطلاق الجديدة والمدمرة ذات الاستخدام المزدوج. وتدين دول حلف شمال الأطلسي نشر روسيا أسلحة نووية وأنظمة قادرة على حمل الأسلحة النووية على أراضي بيلاروس، ويعتبر أن هذا يبين بشكل أكبر كيف تؤدي التصرفات الروسية المتكررة إلى تقويض الاستقرار الاستراتيجي والأمن الشامل في المنطقة الأوروبية الأطلسية. وتدين دول حلف شمال الأطلسي الخطاب النووي غير المسؤول الذي تستخدمه روسيا والتهديد باستخدام الأسلحة النووية لأغراض قسرية. وقد صرح الناتو مراراً وتكراراً بأن أي استخدام روسي للأسلحة الإشعاعية أو الكيماوية أو البيولوجية أو النووية يمكن أن تكون له عواقب وخيمة.
4- تكثيف الإجراءات الهجينة، إذ كثفت روسيا إجراءاتها الهجينة ضد الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي والدول الشريكة، بما في ذلك من خلال وسطاء. وتشمل هذه الإجراءات التدخل في الانتخابات والعمليات الديمقراطية، والإكراه السياسي والاقتصادي، بما في ذلك التلاعب بإمدادات الطاقة والأنظمة الغذائية، حملات تضليل واسعة النطاق، والنشاط الخبيث في الفضاء الإلكتروني، والأنشطة غير القانونية والمدمرة لأجهزة الاستخبارات الروسية.
الحرب الباردة الثانية
هل نحن إذاً أمام بداية حرب باردة ثانية؟ وهل القوة الدافعة الرئيسة هنا متشابهة: التنافس الأيديولوجي والاقتصادي بين قوتين عظميين؟ في الحرب الباردة كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، والآن الولايات المتحدة وخليفتها روسيا. لكن الساحة التي تتكشف فيها هذه القوى تختلف جوهرياً في جوانب عدة.
يسود العالم حالياً قدر أكبر من عدم اليقين بشأن استمرار النظام العالمي القائم بزعامة الولايات المتحدة. وتثار أسئلة صعبة حول الكتلة التي ستنحاز إليها كل دولة. لقد تزايدت التقلبات في أيديولوجية القيادة السياسية داخل البلدان مقارنة بعصر الحرب الباردة، مما يجعل من الصعب التحديد بوضوح ما إذا كانت دولة ما تنتمي إلى كتلة معينة. ويمكن أن يؤدي عدم اليقين هذا إلى زيادة التكاليف.
الناتو هو في نظام تأسيسه تحالف دفاعي. مهمته الرئيسة هي ضمان أمن بلدانه. وفي قمة فيلنيوس الصيف الماضي، أكد الحلفاء مجدداً التزامهم القوي بالدفاع المستمر عن كل شبر من أراضي التحالف، واستمرارهم في حماية مليار مواطن والدفاع عن الحرية والديمقراطية، وفقاً للمادة الخامسة من معاهدة واشنطن.
غير أن الوقائع التاريخية والتجارب المخيبة للآمال خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تؤكد أن الناتو أكثر وأبعد من حلف دفاعي، فما هي المعايير الدفاعية التي دعت الحلف لقصف يوغوسلافيا عام 1999؟ ونشر قواته في كوسوفو بعد ذلك؟ وكيف يمكن تفسير موقفه الدفاعي خلال تدخله في الحرب الأهلية في ليبيا؟ وأي ميثاق دفاعي دعاه لنشر قواته في أفغانستان؟
ليس من الأكيد أن منظري الحلف وقادته سيقدمون إجابات واضحة على هذه الأسئلة، لكن الأكيد هو أنه حتى بعد انتهاء المرحلة النشطة من الصراع الحالي في أوكرانيا، فإن العلاقات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي لن تعود إلى مسار “الشراكة الاستراتيجية”، بل أن العلاقات بين بروكسل وموسكو تتجه نحو إشعال حرب باردة جديدة ثانية في المستقبل القريب المنظور.