تعد الموجة العارمة من الضربات الأميركية التي استهدفت الميليشيات المدعومة من إيران في العراق وسوريا، ليلة الجمعة، واحدة من أهم التدابير التي اتخذتها الولايات المتحدة ضد وكلاء إيران منذ ذروة حرب العراق.
فقد أعلنت واشنطن أن عديداً من الطائرات، بما في ذلك قاذفات من طراز “بي-1” البعيد المدى قدمت جواً من الولايات المتحدة وقصفت أكثر من 85 هدفاً مرتبطاً بالحرس الثوري الإيراني والجماعات التابعة له، في ضربات ربما قتلت ما يصل إلى 40 شخصاً.
وجاءت الطلعات الجوية، التي تضمنت إطلاق أكثر من 125 طلقة ذخيرة، رداً على هجوم شنه نهاية الأسبوع ما قبل الماضي مسلحون مدعومون من إيران على القوات الأميركية في الأردن. ولن تكون هذه الغارات الأخيرة.
وقال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن: “هذه هي بداية ردنا”.
وحذر الرئيس جو بايدن قائلاً إن ضربات إضافية ستقع. وأضاف الرئيس: “إذا تعرض أميركي للأذية، سنرد على ذلك”.
لكن ما مدى فاعلية هذه الضربات في ردع مزيد من الهجمات على القوات الأميركية، وماذا تعني لمرجل التوترات المحتدم بالفعل في أنحاء الشرق الأوسط كله؟
يواجه الرئيس جو بايدن مشكلة في المنطقة تشبه العقدة الغوردية [مصطلح يدل على مشكلة صعبة وتحتاج إلى حل جريء]: كيفية ردع ضربات جديدة ضد المواقع الأميركية من دون إشعال حرب شرق أوسطية على مستوى المنطقة. كل ذلك في حين تتصاعد التوترات مع استمرار إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة، في هجومها على مقاتلي “حماس” في غزة.
منذ اندلاع حرب إسرائيل مع “حماس” في أكتوبر، تعرض الجيش الأميركي إلى 100 هجوم في الأقل في العراق وسوريا بمزيج من الصواريخ والمسيرات الانتحارية.
وكان أكثرها دموية هجمات نهاية الأسبوع ما قبل الماضي التي شهدت امتداد الساحة إلى الأردن، حيث قتل ثلاثة جنود أميركيين وأصيب أكثر من 50 آخرين.
واقترن ذلك بهجمات على الشحن البحري في البحر الأحمر شنها المتمردون الحوثيون في اليمن، الذين يقولون إن هجماتهم هي انتقام لدعم الغرب إسرائيل في هجومها.
اعترفت القيادة المركزية للجيش الأميركي، السبت، بأنها انخرطت في سلسلة أخرى من المناوشات مع المتمردين في البحر الأحمر وخليج عدن.
كذلك شنت الولايات المتحدة سلسلة أخرى من الضربات ضد أهداف مرتبطة بإيران في اليمن السبت، بحسب ما قال ثلاثة مسؤولين أميركيين لـ”رويترز”. وأفادت وسائل إعلام يمنية بوقوع ضربات في الحديدة والعاصمة صنعاء. ومن الواضح أن القصف المشترك للولايات المتحدة والمملكة المتحدة لمواقع الحوثيين في اليمن لم يردع الجماعة المتمردة.
الجزء الأول من العقدة هو أن السيد بايدن يواجه انتقادات متزايدة في بلاده.
كانت ضربات ليلة الجمعة أكبر إجراء اتخذ منذ سنوات ضد حلفاء إيران في سوريا والعراق، لكن – وفق خبراء، لم تكن بأي حال من الأحوال أعنف رد متاح أمام الولايات المتحدة.
وسارع أعضاء جمهوريون في مجلس الشيوخ إلى استغلال هذا، إذ قال روجر ويكر، العضو البارز في لجنة القوات المسلحة، إن الطلعات الجوية بوصفها رداً على المذبحة التي جرت في الأردن جاءت أقل مما يجب ومتأخرة أكثر مما يجب.
وقال تشارلز ليستر، المتخصص الإقليمي في “معهد الشرق الأوسط” بواشنطن العاصمة، إن الولايات المتحدة يبدو أنها لم تستهدف “أهدافاً عالية القيمة”، وركزت بدلاً من ذلك على مراكز القيادة والسيطرة والخدمات اللوجيستية ومخزونات المسيرات.
وصدرت أيضاً تقارير تفيد بأن الولايات المتحدة حذرت مسبقاً بغداد، التي حذرت بدورها المسؤولين الإيرانيين، مما يعني أن كبار الفاعلين نقلوا إلى مواقع أكثر أماناً.
لذلك من غير الواضح ما إذا كانت الضربات ستحقق كثيراً حقاً في تعطيل قدرات الميليشيات على شن مزيد من الهجمات على المواقع الأميركية أو ستحقق كثيراً على صعيد ردعهم عن المحاولة مرة أخرى.
والسبت، بعد ساعات فقط من موجة الضربات الأميركية، زعم مسلحو جماعة “المقاومة الإسلامية في العراق” أنهم ضربوا قاعدة الحرير الجوية التي تستضيف قوات أميركية في شمال العراق.
ولم يتضح بعد ما حدث بالضبط، وقالت مصادر أمنية لـ”رويترز”، إن أي هجوم على الحرير لم يرصد. لكن الأمر كان في الأقل مؤشراً إلى أن بعض وكلاء إيران في المنطقة لا يريدون أن يظهروا بمظهر المتخاذلين.
ويقول متخصصون إن من شبه المستحيل على الإدارة الأميركية، في الوقت نفسه أن تقلل من قدرة الميليشيات على ضرب أهداف أميركية من دون تنفيذ ضربات [كثيفة] بمستوى من شأنه أن يؤدي إلى حرب شاملة مدمرة في المنطقة.
وقال دانيال ديبيتريس، وهو زميل في مؤسسة “أولويات الدفاع” البحثية Defence Priorities، إن الغارات الجوية السابقة والحالية المنفذة منذ بدء حرب غزة فشلت في “إحداث ردع كبير”.
وكتب، السبت الماضي، يقول إن المشكلة تكمن في “الصعوبات المتأصلة” في التأثير في الأطراف الفاعلة غير الحكومية مثل المتمردين الحوثيين أو الجماعات المسلحة المدعومة من إيران، “الذين لا يقلقون كثيراً في شأن الدفاع عن أراض أو الحفاظ على نظام أو الحفاظ على توازن قوى مؤات”.
وأضاف “وبالنسبة إلى الميليشيات في العراق وسوريا، من غير المرجح أن تتغير رغبتها المستمرة منذ سنوات في طرد القوات الأميركية والأجنبية من كلا البلدين بغض النظر عن مقدار القوة النارية التي تستخدمها الولايات المتحدة والتي قد تتعزز بعد هذه الجولة من الضربات”.
وخلص إلى أن العمل العسكري قد يقطع شوطاً في تخفيف بعض الضغوط السياسية الداخلية مع دخول الرئيس الأميركي موسم الانتخابات، لكنه في النهاية لن يحقق النتيجة المرجوة المتمثلة في تحييد المشكلات التي تمثلها هذه الميليشيات.
وبدلاً من ذلك، يتمثل القلق في أن الضربات المقيدة نسبياً قد لا تواصل سوى تأجيج التوترات في وقت محفوف بالأخطار، ما لم تقترن بجهد لمعالجة السبب الجذري: النزاع في غزة.
تريتا بارسي، نائب الرئيس التنفيذي لـ”معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول”، وهو مؤسسة بحثية تدعو إلى الدبلوماسية وضبط النفس العسكري، كتب يقول: “هذه في نهاية المطاف استراتيجية دون المستوى الأمثل”ـ مضيفاً “من المرجح أن يؤدي عمل بايدن العسكري إلى تصعيد الأمور في المنطقة. هذا ما لم يقترن بوقف لإطلاق النار في غزة. لا مفر من هذا الواقع، ولا شيء في المنطقة من المرجح أن يهدأ ما لم يكن هناك خفض للتصعيد في غزة”.
أما العراق، حليف الولايات المتحدة، فمستاء أيضاً. لقد أعلنت وزارة الخارجية العراقية، السبت، أنها ستستدعي القائم بأعمال السفارة الأميركية (لأن السفير خارج البلاد) لتقديم احتجاج رسمي إليه على الضربات الأميركية التي انتهكت سيادتها.
هذا كله يمكن أن يتصاعد في الأيام المقبلة.
وفي سياق متصل، ثمة مخاوف من أن تدفع إسرائيل بهجومها المدمر في غزة إلى بلدة رفح المتاخمة لمصر والتي تؤوي الآن أكثر من مليون شخص فروا هرباً من أسوأ جولات القتال.
فالقصف الإسرائيلي الشرس لغزة أدى إلى مقتل أكثر من 27 ألف شخص وفق وزارة الصحة في القطاع الذي تديره “حماس”.
ذلك أن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت قال، الخميس الماضي، إن قواته ستتوغل جنوباً في القطاع الذي يبلغ طوله 42 كيلومتراً، إذ تواصل البلاد ردها على الهجوم الذي شنته “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) على جنوب إسرائيل حيث أخذت نحو 250 شخصاً كرهائن وقتلت مئات آخرين.
وأعرب الاتحاد الأوروبي عن قلقه العميق إزاء أي تحرك إسرائيلي تجاه رفح، لأن الوضع هناك “مخيف للغاية”. ولفتت الأمم المتحدة إلى أن البلدة أصبحت “طنجرة ضغط ملؤها اليأس”.
ويخشى كثر من أن هجوماً كهذا قد يدفع بلاجئين إلى مصر، مما يقوض اتفاق السلام المبرمة بين إسرائيل وهذه البلاد، ويغضب الولايات المتحدة، وربما ينسف محادثات وقف إطلاق النار البطيئة التي تحاول قطر بقوة التوسط فيها.
ومن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى مزيد من ردود الفعل العنيفة في أنحاء الشرق الأوسط كله. وقد يجبر الولايات المتحدة بل وحتى المملكة المتحدة على شن مزيد من الضربات ويقربنا جميعاً من حرب خطرة على مستوى المنطقة لا يريدها أحد.