بمجرد أن أغارت الطائرات المقاتلة الإسرائيلية على مبنى مأهول بالسكان في شمال غزة، ضمن الحرب الدائرة في القطاع، فتح مؤمن سكر، كاميرا هاتفه المحمول وأخذ يصور الحدث بخاصية الفيديو، مركزاً على حجم الدمار الذي لحق بالعمارة.
بعد دقائق معدودة وصل فريق المستجيب الأول للإسعاف والطوارئ، وأخذوا ينتشلون الجثث التي سقطت بسبب الغارة، وكان مؤمن حاضراً للمشهد ولا يزال يلتقط بعدسة هاتفه الذكي تفاصيل الحدث، ويرصد بكاميرته جثامين القتلى ويركز على ملابسهم وفئاتهم العمرية.
وعند سؤال مؤمن عما يقوم به، أجاب “أوثق الانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة، وبخاصة تلك المتعلقة بملف الإبادة الجماعية، وسأقدمها كدليل يدين الجيش الإسرائيلي لدى محكمة الجنايات الدولية، وهذا أبسط شيء يمكن من خلاله الانتصار لقضيتنا”.
مؤمن ليس رجل قانون ولا يجيد المرافعة أمام قضاة المحكمة الجنائية الدولية، لكنه يعرف أن مكتب المدعي العام للمحكمة أتاح إمكانية تقديم ضحايا الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي أدلة في شأن الجرائم المرتكبة بحقهم لاستخدامها كوثائق في الملفات التي رفعتها السلطة الفلسطينية ضد تل أبيب أمام المحكمة في لاهاي.
رابط مباشر
وبعد صراع طويل بين إسرائيل والجنائية الدولية حول ولاية المحكمة على الأراضي الفلسطينية، أقرت الأخيرة بولايتها على مناطق سكن الفلسطينيين وأكدت اختصاصها في التحقيق بالجرائم المرتكبة في المنطقة. وعلى خلفية ذلك، خصص مكتب المدعي العام للمحكمة، رابطاً مباشراً يمكن أي ضحية أو شخص شاهد على جرائم ترقى إلى جرائم حرب، توثيقها وإرفاق ملفات الانتهاكات مباشرة إلى مكتب المدعي العام لفحصها من أجل استخدامها لاحقاً في التحقيقات والمحاكمة.
وعلم “مؤمن” أن بإمكان أي شخص في الأراضي الفلسطينية توثيق الانتهاكات الإسرائيلية وإرسالها إلى الجنائية، وخصص جهده في الحرب لذلك الهدف. وقال “أتنقل من مكان إلى آخر كل يوم لرصد أي حدث يرقى لجريمة حرب وأرفقه عندما يتاح لي استخدام الإنترنت إلى المحكمة الدولية”.
وعرض مؤمن بعض الصور التي التقطها بواسطة هاتفه المحمول، ويظهر فيها دمار هائل، وبعضها يحتوي على جثث، شارحاً أن “هؤلاء الضحايا يلبسون زياً مدنياً وبينهم أطفال وسيدات، هل يعقل أن تكون المرأة مقاتلة أو الصغير يمسك سلاحاً؟!”.
وأشار مؤمن إلى مقطع فيديو يظهر شخصاً من ذوي الإعاقة الحركية ويجلس على كرسي متحرك. وقال “قتلته إسرائيل في غارة، وانتهكت بذلك جميع الأعراف الدولية، أعتقد أن في غزة كثيراً من الوثائق التي يمكن أن تثبت أن الجيش ارتكب جرائم ترقى لجرائم الحرب”.
وما شجع مؤمن على توثيق انتهاكات الجيش وتقديم ملفاته إلى الجنائية الدولية، هو مثول إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية وقبولها الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد تل أبيب بتهمة ممارسة أفعال الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
وأوضح مؤمن أنه شاهد مرافعة الفريق القانوني لجنوب أفريقيا، واستمع لقرار محكمة العدل الدولية، وهذا شجعه بأن مسار العدالة بالقانون الدولي يمكن أن يؤتي نتائج ملموسة إذا استطاع الفلسطينيون توثيق جرائم وانتهاكات الجيش الإسرائيلي بشكل فعال وقوي وأرفقوها إلى المحكمة الجنائية التي تحاسب بشكل فعلي منتهكي القانون ومرتكبي أفعال شنيعة.
الطريق نحو الإنصاف
في الواقع، اهتم سكان غزة بالقضية التي تقودها جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية وأكدوا أنها بداية الطريق لإنصافهم للمرة الأولى، وأن المجتمع الدولي تغير موقفه تجاه قضيته، وبناءً على ذلك تشجعوا لرصد الانتهاكات الجسيمة بحقهم.
وقاد مؤمن حملة على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف توعية سكان غزة حول أهمية توثيق جرائم الإبادة التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي بحقهم، وشرح لهم آليات وطرق رصدها وتصويرها، وكيفية تحميلها على موقع محكمة الجنايات الدولية. وبث رسائل تشجع على القيام بذلك. وأوضح للناس أثرها وبعدها في القانون الدولي وحتى نتائجها بالنسبة للقضية الفلسطينية.
وبالفعل تشجع سكان غزة وبدأوا بتجميع المعلومات والوثائق من أجل تقديمها لمحكمة الجنايات، إذ عمل المواطن الغزاوي رجب بصل على جمع مقاطع فيديو التقطها كاميرات المراقبة في شارعه أثناء استهداف الجيش الإسرائيلي لمنزل عائلته، حين سقط في القصف أكثر من 44 ضحية.
وقال رجب “تسعى العائلة إلى دعم قضية الإبادة الجماعية، وذلك من خلال جمع الوثائق التي تظهر وتؤكد أن إسرائيل استهدفت المدنيين، بخاصة أن القانون الدولي الإنساني يحظر أثناء الأعمال العسكرية استهداف منشأة مدنية من دون أي دليل حول استخدامها عسكرياً، وهذا ما جرى معنا”. وأضاف “جميع من سقطوا في بيتنا كانوا مدنيين وبينم أطفال، وتم قتلهم من دون سابق إنذار، لذلك جمعت الوثائق وأرفقتها إلى الجنائية الدولية وآمالنا كبيرة في تحقيق نتائج، أفعل ذلك لأنني تشجعت بعد أن مثلت إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية”.
من جهة أخرى، صرح الباحث الحقوقي صلاح عبدالعاطي بأن “جميع أدلة الفلسطينيين يمكن أن تساعد الجنائية الدولية في إثبات انتهاكات ترقى إلى جرائم حرب ارتكبها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، هذه الوثائق تدين تل أبيب حتى لو لم يتم استخدامها”.
وقال وزير العدل الفلسطيني محمد الشلالدة إن “الجهد الذي يقوم به سكان غزة يدعم مسار الفحص الأولي الذي تقوم به محكمة الجنايات الدولية، ويساعد ذلك في أن قضية فلسطين وممارسات الإبادة الجماعية ملف محوري ويشجع قضاة الهيئة في تسريع إجراءات التحقيق”.
أما إسرائيل، فما زالت ترفض التعامل مع الجنائية الدولية. ويقول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إنه “لا يوجد اختصاص للمحكمة في المنطقة، كما أن جيشنا لم ينتهك القانون في أي حرب ضد غزة”.