غير مسبوق هذا الذي يجري بين أمريكا وإسرائيل حتى ما قبل حرب السابع من أكتوبر. حتى عندما كان نائبا للرئيس الأسبق باراك حسين أوباما لثماني سنوات أخطرها الولاية الثانية، لم تخرج الاختلافات بين الولايات المتحدة وأقرب حلفائها في الشرق الأوسط إلى هذه الدرجة من العلنية أولا والحدية ثانيا. هي اختلافات جوهرية لكنها تبقى عابرة حتى وإن قامت صحافة البلدين بتسريب بعض الأخبار أو السرديات التي تفيد بغير ذلك، ربما لاعتبارات تفاوضية أو دبلوماسية خاصة قبل كل صفقة تبادلية.
لا خلاف بين إدارتي البلدين ولا بين معارضي من هم في الحكم الآن، على خصوصية العلاقة بينهما، لكن الأجندة الانتخابية ضاغطة قبل وبعد عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم لسادس مرة في أطول فترة حكم لرئيس وزراء في تاريخ إسرائيل. القصة لم تبدأ بالسابع من أكتوبر، بل ترجع إلى ما سمي انقلاب بيبي على القضاء، وهي مزاعم لا يرفضها اليمين الإٍسرائيلي وحده بل الأمريكي أيضا سيما بعد التطورات الدراماتيكية التي بلغتها سلسلة محاكمات الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب وأحدثها نيويورك. حتى البعد الاستخباريّ صار طرفا في المعادلة عندما تردد أن التحقيقات بعد انتهاء الحرب الحالية ستبحث “نظرية مؤامرة” زعمت أن هناك من أعطى الأوامر بتأخير أو تعطيل إحباط أجهزة الأمن والجيش في إسرائيل، اقتحام حماس للحدود. اتهامات قاسية متبادلة غير مسبوقة في تاريخ إسرائيل رغم ما عرف عن التجاذبات تاريخيا في مطبخ صنع القرار الإسرائيلي بين الأمنيين والعسكريين وأحيانا البيروقراطيين من جهة، والسياسيين من جهة أخرى.
بايدن بحاجة ماسة لتفادي كارثة تكرار الثمن الباهظ الذي دفعه الرئيس الأسبق -الديمقراطي- جيمي كارتر جراء أزمة الرهائن في طهران والتي أنهت مستقبله السياسي وليس فقط حرمته من ولاية ثانية رغم الإنجاز التاريخي المتمثل بإبرام أول اتفاق سلام بين إسرائيل وأكبر دولة عربية، مصر.
مستشار بايدن لشؤون الأمن القومي جيك سوليفان تفاخر قبل أيام من “طوفان الأقصى” كما سمته حماس، بأن “الشرق الأوسط الأكثر استقرارا منذ عقود” بفضل سياسة الرئيس، ليضطر وزير خارجيته أنتوني بلينكن ومدير وكالة الاستخبارات المركزية -سي آي إيه- وليام بيرنز للإقرار بأن المنطقة تعيش “أخطر أيامها منذ حرب “1973 وأنها “حافلة بمخاطر عديدة”.
ليس سرا أن بايدن بعد الانسحاب الكارثي من أفغانستان الذي أنحى باللائمة فيه على سلفه ترامب كونه هو من أبرم الاتفاق مع طالبان، كان -وربما ما زال- يأمل في صفقة كبرى “ميغا دييل” ثانية مع إيران تلجم -ما لم يكن تنهي- كل الفصائل التابعة لما يسمى محور “المقاومة والممانعة”، المحور الذي سماه صراحة جميع القوى الإسرائيلية وليس فقط بيبي “محور الشر” التابع لنظام ملالي طهران. وفق التقديرات المعلنة واتهامات أطراف عدة من بينها إسرائيل، فإن إيران أوعزت لحماس بتخريب فرص سلام حقيقية كادت أن تتبلور في انضمام السعودية إلى اتفاقات إبراهيم والتي أكد وزير خارجيتها فيصل بن فرحان في الدورة الستين لمؤتمر ميونيخ، أن شيئا لن يحدث في هذا الاتجاه “ما لم تنته حرب غزة وتوافق إسرائيل على تطبيق مبادرة السلام العربية” مبادرة خادم الحرمين الشريفين، الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز للسلام.
بلينكن كان قد اختتم زيارة خامسة لإسرائيل وجولة رابعة في الشرق الأوسط بالفشل جراء انهيار صفقة كانت وشيكة بين إسرائيل وحماس. تجددت الآمال باتصال مطوّل أجراها بايدن بنتنياهو عشية استقباله العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني ابن الحسين في البيت الأبيض في مستهل زيارة هي الأولى لقائد عربي وشرق أوسطي منذ حرب السابع من أكتوبر. حرص ملك الأردن في جولته التي شملت خمس دول أطلسية ثلاث منها دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي (أمريكا، كندا، بريطانيا، فرنسا وألمانيا)، على منع “كارثة محققة” في رفح لن يسلم من تداعياتها أحد.
وإزاء رفض نتنياهو إلغاء عملية رفح “حتى في ظل صفقة”، شدد بلينكن على أن أي دعم بالذخائر في تلك العملية والجاري على خط متواز لن يتم ما لم تحصل واشنطن على “ضمانات بتجنيب المدنيين أي مخاطر” مشددا على موقف واشنطن الداعم للقاهرة وعمّان بعدم السماح بأي تهجير للفلسطينيين خارج القطاع أو الضفة.
ثلاثة أسابيع على حلول شهر رمضان وتسعة أشهر على انتخابات أمريكا الرئاسية، ومظاهرات في تل أبيب تتصاعد حدتها ضد بيبي من أسر المخطوفين، كلها عوامل ضاغطة لتحول الاختلافات العابرة إلى خلافات لا تنتهي إلا بتغيير في القيادات والتي تشمل قطعا الجانب الفلسطيني بين داع إلى قيادة فلسطينية “متجددة” ومشترط أولا القضاء على حماس، وحالم بصفقة أو متوعد إيران بضربة تعيد ضبط إيقاع المنطقة بأسرها نحو الطرح الطموح الذي بشّر به بايدن العام الماضي وهو طريق تجاري يبدأ بالهند وينتهي بأوروبا وأمريكا الشمالية عبر شبكتي تجارة ونقل برية تبدأ من الإمارات وتنتهي بإسرائيل عبر السعودية والأردن.
وحدها الانتخابات لا المعارك التي ستحول دون تحول الاختلافات الراهنة إلى ما هو أكثر خطورة من الخلافات الشخصية أو السياسية. فالخلاف في الأصل والأهم هو “اليوم التالي”، هل يكون بعد وقف إطلاق النار، أم بعد القضاء على حماس، أم يكون الأول في قيام دولة فلسطينية، مجرد الحديث عنها الآن سيكون بمثابة “هدية”، رفضها ليس نتانياهو وحده، بل وإسحاق هيرتسوغ أيضا ومن على منبر مؤتمر ميونخ للأمن.