في قرية تظهر على أرجاء مبانيها آثار المعارك الضارية بالقرب من بلدة سيفرسك في منطقة دونيتسك الشرقية، تقبع قاعدة عسكرية أوكرانية للطائرات المسيرة، التقينا فيها الجندي الذي يلقب بـ”كوتشيريافي” (ويعني “ذو الشعر الأجعد” باللغة الأوكرانية، في إشارة ساخرة إلى رأسه الحليق) الذي شرح لنا كمية المتفجرات اللازمة لتدمير آلية مدرعة بطائرة مسيرة “انتحارية”.
يقول الجندي: “نستطيع تعبئتها بمتفجرات يتراوح وزنها بين 600-700 غرام عادة، مما يكفي لتدمير أو تعطيل آلية مدرعة خفيفة. بلا شك فإن تدمير دبابة أكثر صعوبة، لكنه ممكن إذا سقطت القنبلة في المكان الصحيح. أما النسخ التي تستهدف الجنود، فيمكن حشو القنبلة بشظايا كروية أو مسامير”.
بينما نمشي، نلاحظ شباك التمويه يغطي الممرات المفتوحة لمنع الروس من رصد القاعدة. فقد أصبح مشغلو الطائرات المسيرة على جانبي النزاع يدركون أنهم باتوا الأهداف المفضلة لبعضهم بعضاً.
ومع تحول الصراع بين القوات الأوكرانية والروسية إلى حال جمود دموي على امتداد خطوط الجبهة الممتدة 600 ميل (حوالى 1000 كلم)، يتزايد التركيز على القتال الجوي، إذ تمطر الصواريخ والطائرات المسيرة وأنظمة الدفاع الجوي والطائرات الحربية الموت من السماء.
وكانت الطائرات المسيرة، التي تعرف باسم “درون”، برزت كسلاح حاسم لكل من أوكرانيا وروسيا. فبالنسبة إلى أوكرانيا، تعد هذه الطائرات سلاحاً يمكن تصنيعه وتطويره من دون الاعتماد الكلي على المساعدات الغربية. وفي مواجهة خصم متفوق عددياً وعتاداً، تصبح هذه الابتكارات هي المفتاح لهزيمة قوات فلاديمير بوتين.
ومن المتوقع أن تسيطر الطائرات المسيرة على المرحلة المقبلة من الحرب، إذ تتسابق القوى المتصارعة لتطوير أنظمة توجيه ذاتي تعتمد على الذكاء الاصطناعي تجعل هذه الطائرات عصية على أساليب الحرب الإلكترونية المستخدمة حالياً لتحييدها أو تدميرها.
وفي الوقت الراهن، يعمل “كوتشيريافي”، الذي عمل 22 عاماً في قطاع تكنولوجيا المعلومات قبل أن يتطوع للخدمة العسكرية عقب الغزو الروسي، فيما يسميه “مختبره”. ويقوم بتجارب على أنواع مختلفة من المتفجرات، تلك التي تلقى من طائرات “القاذفة” باهظة الثمن القادرة على العودة لقاعدتها بعد تنفيذ مهمتها، أو تلك المثبتة على الطائرات “الانتحارية” أو “الكاميكازي” التي تتدمر بمجرد اصطدامها بأهدافها.
يعتمد الأوكرانيون على طابعات ثلاثية الأبعاد لا يتجاوز سعرها 800 جنيه استرليني (1000 دولار) لصناعة أغلفة بلاستيكية لأنواع مختلفة من القنابل. يقول “كوتشيريافي” إن طباعة غلاف واحد يستغرق 24 ساعة فقط.
ويضيف: “يمكن للطائرات المسيرة التحليق لمسافة 12 إلى 13 كيلومتراً، إذ يختلف المدى تبعاً للسرعة ووزن الحمولة واتجاه الرياح ودرجة الحرارة، فكلما كانت الأجواء أبرد، كلما كان تحليقها أبطأ. وكثير من الأمور يعتمد على نوع البطارية. لقد قمنا بتعديل بعض الطائرات مع إضافة بطاريات إضافية. لكن ذلك يجعلها أثقل وزناً، لذا لن يتضاعف مدى الطيران بالضرورة”.
كما أوضح “بما أن القنابل المطبوعة بتقنية ثلاثية الأبعاد لها أغلفة أخف من المعدنية، فيمكننا حشوها بمزيد من المتفجرات”.
أصبح طراز “مافيك” الصيني للطائرات المسيرة، الذي يتراوح سعره بين 1600 و4800 جنيه استرليني (2000 و6000 دولار)، السلاح المفضل لدى القوات الأوكرانية. وتعتمد الكلفة على عوامل عدة، بما في ذلك تزويد الطائرة بكاميرا نهارية أو نسخة ليلية أكثر كلفة.
ويوضح “كوتشيريافي” أنه في العام الماضي، قام شركات التصنيع الصينية، على الأرجح بناء على طلب من أصدقائهم في الكرملين – بإدخال تعديلات تمنع الطائرات المسيرة من العمل في أوكرانيا. لكنه يؤكد أن خبراء تكنولوجيا المعلومات الأوكرانيين سرعان ما وجدوا طريقة للتغلب على هذا العائق.
ولكن، في ظل تزايد استخدام الطائرات المسيرة وتحسن قدرات كل جانب على تدميرها، لجأ الأوكرانيون إلى خيارات أرخص وأساليب أسرع لتعويض الخسائر الحتمية.
وجدت أوكرانيا الحل من خلال تصنيعها محلياً أو تجميع أكبر قدر ممكن من مكوناتها داخل البلاد. وعلى رغم ذلك، لا تزال هناك حاجة إلى استيراد بعض المكونات الأساسية، مما خلق منافسة شرسة بين أوكرانيا وروسيا للحصول على هذه القطع من أي مصدر متاح.
داخل “مختبر” “كوتشيريافي”، تغطي صفوف من الطائرات المسيرة ذات المراوح الرباعية أسطح العمل. يقول: “هنا نجري التجارب لنحدد أفضل السبل لاستخدام الموارد المتاحة، وكيفية تحسينها أو تصميم أساليب جديدة”.
يشدد كوتشيريافي على أن تدمير المعدات العسكرية الروسية أهم من استهلاك طائرة مسيرة لاستهداف مجموعة من الجنود، لكنه يلفت إلى أن هذه الطائرات تستخدم بالفعل إذا هدد هجوم روسي بشري واسع موقعاً أوكرانياً.
ومع تراجع إمدادات قذائف المدفعية الأوكرانية بشكل حاد على خلفية نزاع سياسي في الكونغرس الأميركي يعرقل الدعم العسكري لكييف، أصبحت الطائرات المسيرة تؤدي مهمات كانت تناط سابقاً بالمدفعية الثقيلة.
ويعمل “كوتشيريافي” في قاعدة تابعة لكتيبته، اللواء العاشر المستقل للهجوم الجبلي، التي تدافع منذ صيف 2022 عن حوالى 20 ميلاً (30 كلم) من خط المواجهة الأكثر اشتعالاً في أوكرانيا. تقع القاعدة في قرية مهجورة تحولت فيها المنازل إلى ركام أو هياكل متفحمة جراء قصف المدفعية. الطريق الرئيس تغزوه الحفر التي خلفتها القذائف وآثار المركبات المدرعة الثقيلة، إضافة إلى الشاحنات وسيارات الإسعاف التي تتحرك مسرعة من خط المواجهة وإليها.
يأخذنا “كوتشيريافي” في جولة حول القاعدة وفي بعض المنازل المتبقية، إذ توجد غرف مزودة بشاشات عرض تبث صوراً من الكاميرات المثبتة على الطائرات أثناء بحثها عن أهداف أو مهاجمة فرائسها. وتستخدم غرف أخرى كمهاجع للنوم.
في حقل مجاور، جرى تركيب أطواق معدنية ليتدرب مشغلو الطائرات على التحليق من خلالها أو اختبار الطائرات المسيرة المعدلة.
وتتمثل المهمة الرئيسة لهذه القاعدة في دعم وحدات المدفعية الأوكرانية من خلال رصد وتدمير أية مدفعية أو هاوتزر روسية قد تستهدف المواقع الأوكرانية.
حتى العام الماضي، كانت الطائرات المسيرة المستخدمة في الصراع بطيئة نسبياً ويوجهها مشغلون يراقبون الشاشات لعرض الصور الملتقطة من كاميراتها.
لكن منذ الصيف الماضي، حلت مكانهم “مسيرات موجهة بمنظور الشخص الأول”، إذ يرتدي المشغل نظارات إلكترونية تمكنه من الرؤية مباشرة عبر كاميرا الطائرة، وبالتالي توجيهها بدقة أكبر.
ويتمتع هذا النوع من الطائرات المسيرة بقدرة أكبر على المناورة كما أنه أسرع، إذ تصل سرعة الطائرة نحو 60 ميلاً في الساعة (حوالى 100 كلم/ساعة) مع مدى أطول يصل إلى 15 ميلاً (أكثر من 20 كلم) بحسب الظروف الجوية. وبالتالي، يحتاج مشغلوها إلى تدريب مكثف لصقل مهاراتهم.
واللافت أن معظم مشغلي المسيرات القتالية الذين قابلتهم “اندبندنت” هم من الشباب وطلبوا عدم تصويرهم، بما فيهم قائدهم، وهو شاب في أوائل العشرينيات من عمره، بلحية وشعر مربوط بطريقة “ذيل الحصان”.
هؤلاء الشباب لديهم قواعدهم الخاصة لأماكن المعيشة والتخزين ومناطق للصيانة والإصلاح. ومثل “مختبر” “كوتشيريافي”، تقع هذه القواعد عادة خلف خط المواجهة، لكن الطيارين يقتربون أكثر لتنفيذ مهماتهم. ولتجنب رصدهم وتدميرهم من العدو الذي يلاحق إشارات أجهزة التحكم عن بعد، يترك الطيارون، حيثما أمكن، “أجهزة إعادة الإرسال” على بعد مئات الأمتار من مواقع اختبائهم.
وفي ظل تنامي أهمية الطائرات المسيرة، تطورت أساليب التصدي لها أيضاً. يمكن أن تكون عرضة للصواريخ المضادة للطائرات أو للنيران من بنادق القنص المتخصصة، أو حتى الرشاشات العادية.
لكن إسقاطها ليس له أثر فعال إذا ما نظرنا إلى الأعداد الهائلة من الطائرات الصغيرة التي يستخدمها الجانبان الآن ضد المركبات المدرعة والمدفعية وأنظمة الصواريخ والدفاع الجوي والجنود.
والحق أن الطريقة الأكثر كفاءة لإسقاط طائرة مسيرة موجهة لاسلكياً تتمثل في استخدام تقنيات الحرب الإلكترونية، وهنا أيضاً، تتمتع روسيا بميزة، لأنها كرست جهوداً كبيرة قبل غزوها لأوكرانيا لتطوير قدرات الحرب الإلكترونية التي تعطل أنظمة تحديد المواقع والتحكم عن بعد في الطائرات الأوكرانية.
وتشير تقديرات مركز البحوث البريطاني “المعهد الملكي للخدمات المتحدة” Royal United Services Institute إلى أن قدرات موسكو في الحرب الإلكترونية تسمح لها بتدمير حوالى 10 آلاف طائرة مسيرة أوكرانية كل شهر، كما اعترف مسؤولون عسكريون أوكرانيون كبار بتفوق روسيا في هذا المجال حالياً.
وذكر “كوتشيريافي” إنه فقد ثماني طائرات مسيرة في الأيام الأخيرة بسبب أنظمة الحرب الإلكترونية الروسية، لكنه يضيف: “نحاول مواكبة بروسيا، ويفتش الجانبين كلاهما عن طرق جديدة لتعطيل أو تدمير الطائرات المسيرة التابعة للطرف الآخر. كل سلاح أو قطعة معدات عالية التقنية تحتوي مكونات محوسبة عرضة – من الناحية النظرية – للتداخل الإلكتروني والتشويش”.
وطورت كل من أوكرانيا وروسيا أجهزة حرب إلكترونية صغيرة يمكن حملها على الدبابات أو تثبيتها في الخنادق والمخابئ. كما أجرت أوكرانيا العام الماضي تجارب على سلاح يشبه البندقية يرسل إشارات تشويش نحو الطائرات المعادية المقبلة.
في الخريف الماضي، صرح القائد العام السابق للجيش الأوكراني، الجنرال فاليري زالوجني، بأن الحرب البرية وصلت إلى طريق مسدود يشبه الجمود في ساحات معارك الحرب العالمية الأولى. وقال إن هناك حاجة إلى “قفزة تكنولوجية” مثل الاختراع الصيني للبارود لكسر هذا الجمود.
يكاد يكون من المؤكد أن الاختراق التكنولوجي المقبل سيكون بتصميم نظام تحكم وتوجيه مستقل يمكنه جعل الطائرات من دون طيار سريعة وذات قدرة عالية على المناورة أقل عرضة للحرب الإلكترونية.
هذا النوع من المسيرات سيجري إطلاقها وتوجيه من الطيار، الذي يمكنه من مسافة بعيدة، اختيار هدف وتثبيت الطائرة عليه. وبمجرد أن يحصل الدرون على هذه “التعليمات”، فإن نظام التحكم المستقل الذي يقوده الذكاء الاصطناعي سيعمل بشكل مستقل عن الطيار، الذي تصبح أجهزة التحكم عن بعد لديه هي الحلقة الأضعف في مهمات الطائرات المسيرة الحالية.
وبالتالي، فإن الطائرة المسيرة الذاتية لن تتأثر بالحرب الإلكترونية، ويمكنها الاستمرار في مسارها – بل وتعديل مسارها لمتابعة هدف متحرك. كما سيحتاج طيارها إلى مهارات أقل بكثير لتشغيلها مقارنة بطياري الطائرات المسيرة حالياً.
ويؤكد وزير التحول الرقمي الأوكراني ميخائيلو فيدوروف، أن المهندسين الأوكرانيين يعملون على تطوير أنظمة تحكم للطائرات المسيرة تعمل بالذكاء الاصطناعي. كما أن الأوكرانيين يعلمون أن الروس كرسوا جهوداً جبارة لتكييف الذكاء الاصطناعي واستخدامه في الطائرات المسيرة ويجرون بالفعل تجارب على طائرات مستقلة.
وفي مؤشر على الأهمية التي توليها حكومته لإنتاج أعداد هائلة من الطائرات المسيرة، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نية أوكرانيا إنتاج مليون طائرة مسيرة هذا العام. كما تعهد حلفاء كييف بتقديم مئات الآلاف من الطائرات الأخرى.
ويؤكد “كوتشيريافي”، “الصراع بيننا وبين الروس الآن على من يبتكر أساليب أذكى وأكثر فتكاً لاستخدام الطائرات المسيرة”.