تعيش كوبا، وهي دولة من الدول القلائل التي لا تزال في قبضة الشيوعيين، في خضم أسوأ أزمة اقتصادية تمرّ بها منذ عقود، ما أدى إلى هجرة قياسية من الجزيرة وصلت لحدود احتجاز نحو 374 ألف كوبي، أو حوالى ثلاثة في المئة من سكان الجزيرة، على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة في أكبر موجة من الهجرة الكوبية على الإطلاق، وتزايد السخط بين الكوبيين الذين يعانون من نقص حاد في الغذاء والوقود والدواء والكهرباء، إلى جانب النقص في أشياء أخرى مثل آلات العمل والمعدات والمواد الخام والتكنولوجيا.
هذه الأزمة المستفحلة دفعت النظام الشيوعي الكوبي، أواخر الشهر الماضي، لطلب مساعدات إنسانية من الأمم المتحدة للمرة الأولى في التاريخ، وتحديداً من برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، بسبب استحالة توزيع الحليب المدعوم على الأطفال في ظل الحصار. تلا ذلك إعلان الحكومة الكوبية أنها لن تكون قادرة على ضمان إمدادات الخبز المدعوم، ما يعني بطبيعة الحال أن البلاد دخلت في أزمة إنسانية عميقة، وقد تتحول لتكون مسرحاً للحوادث والصراعات والحرب الأهلية.
عندما تعترف الحكومة في هافانا بنقص المواد الغذائية الأساسية مثل الحليب والخبز وتطلب علناً المساعدات الإنسانية الدولية، فهذا مؤشر رئيس إلى أن الأزمة الاقتصادية عميقة، وأن النظام الشيوعي يقترب من الانهيار. فقد اعتادت كوبا الأزمات الاقتصادية منذ استولى الشيوعيون على الحكم عام 1959 بعد انتفاضة مسلحة قادها فيدل كاسترو تبعها فرض الحكومة الأميركية حظراً تجارياً عليها في العام الذي يليه، وحتى خلال الأزمة الاقتصادية الأكبر خلال ما يسمى بـ “الفترة الخاصة” في بداية تسعينيات القرن الماضي، لم يحدث أن طلبت كوبا المساعدة من الأمم المتحدة.
أسباب الأزمة
الأسباب التي أوصلت النظام الشيوعي في كوبا لهذه الحالة البائسة كثيرة، إذ أدت الأزمة الاقتصادية في فنزويلا إلى توقف كاراكاس عن إرسال كميات كبيرة من النفط المدعوم إلى كوبا، وهو أمر ضروري لخدمات النقل وإبقائها بأسعار منخفضة، وبسبب الافتقار إلى “العملة الصعبة”، لا تستطيع كوبا حالياً شراء كميات كبيرة من النفط بالأسعار الحقيقية، وهذا ما دفعها، العام الماضي، حتى إلى إلغاء عرض عيد العمال، وهو أكبر احتفال جماعي سنوي في الجزيرة تستخدمه الحكومة الشيوعية بانتظام لأغراض دعائية.
وكان لإدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب دور في استفحال الأزمة الكوبية، إذ شددت إدارة هذا الأخير بعض العقوبات المفروضة على كوبا والتي كانت إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما قد رفعتها سابقاً، ما أدى إلى انخفاض كبير في حجم الأموال التي يرسلها الشتات الكوبي من الولايات المتحدة إلى الجزيرة ومنع الأميركيين من السفر إلى كوبا لأغراض تعليمية وثقافية، كما حظرت مؤسسة ترمب التجارة مع الشركات التي تعمل نيابة عن الجيش الكوبي وأجهزة الاستخبارات والأمن الكوبية.
ومن ناحية أخرى، كشفت التبعات الصحية والاقتصادية السلبية لجائحة كورونا عن نقاط الضعف في النظام الصحي الكوبي، والذي يعرف بأنه أعظم إنجاز للثورة الكوبية، وتبيّن أن النظام الصحي هش مع نفاد الأوكسجين والمعدات والأدوية الأساسية في المستشفيات، وتسببت الجائحة في انخفاض عائدات النقد الأجنبي بنسبة 90 في المئة مع انهيار السياحة. وعلى عكس بعض دول الكاريبي الأخرى، لم تتعاف السياحة الكوبية بعد من هذه التبعات.
ولعبت السياسات الاقتصادية التي اعتمدها الرئيس ميغيل دياز كانيل الذي وصل إلى السلطة، في عام 2018، بفضل ولائه لراؤول كاسترو من دون أن يمتلك أي مؤهلات تؤهله لهذا المنصب، دوراً سلبياً بتغذية بذور الأزمة، وأوقفت التقدم في إصلاحات السوق. وفي 2021، أنهى كانيل نظام العملة المزدوجة الذي دام ما يقرب من عقدين من الزمن، ما أدى إلى واحدة من أشد التخفيضات في قيمة العملة التي شهدها العالم.
أما مستويات التضخم فبلغت معدلات قياسية في السنوات الماضية، في حين كانت القفزة في أسعار المواد الغذائية فلكية لأن كوبا تستورد نحو 70 في المئة من الغذاء لسكانها، وبذلك ارتفعت أسعار المواد الغذائية، العام الماضي، بنسبة 78 في المئة.
سوء الإدارة
يعزو كثيرون من المراقبين ما يحصل حالياً من نقص غذاء في كوبا لسوء الإدارة، فمثلاً من بين المطاحن الخمس في الجزيرة، لا تعمل سوى المطاحن الموجودة في مدينة سيينفويغوس، ولكنها تنتج أقل بكثير من القدرة المطلوبة لتلبية الطلب، وعلى رغم التبرع الكبير الذي قدمته الحكومة الروسية منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، والذي بلغ 25 ألف طن من القمح، وهو ما يمكن أن يغطي نظرياً حاجات الجزيرة لأكثر من شهر، إلا أن النقص مع ذلك لا يزال قائماً، وهذا يؤدي إلى طرح تساؤلات عن كيفية استخدام القمح المتبرع به.
إضافة إلى ذلك، فإن الجهود التي بذلتها الحكومة الكوبية لاستبدال الخبز ببدائل مثل نبات الكسافا أو القرع أو الرز لم تكن كافية، إذ لم تلبِ سوى 15 في المئة من الطلب، كما فشلت محاولات تأمين الدقيق المستورد عبر القنوات غير الحكومية، إذ لم يتم توفير سوى 3000 طن دقيق شهرياً، وهو ما لا يكفي لسد حاجات السكان، وبينما يلقي النظام الشيوعي الكوبي باللوم على العقوبات الأميركية في نقص الخبز، تضخ حكومته، في الوقت نفسه، عائدات العملات الأجنبية في بناء المنتجعات والفنادق الفاخرة للسياح.
رفض شعبي متزايد
الأزمة الاقتصادية الخانقة أثرت بشكل كبير في شعبية النظام الشيوعي في كوبا، ففي يوليو(تموز) 2021، اندلعت احتجاجات ضخمة مناهضة للحكومة في مختلف أنحاء البلاد وصفها مراقبون بأنها أكبر احتجاجات منذ وصول الشيوعيين إلى السلطة في 1959، وكان الدافع وراءها الحالة الاقتصادية المتردية، وفشل الحكومة في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والسياسية الموعودة، والاستياء من استبداد الحكومة، وتقييد الحريات المدنية.
واستمرت الاحتجاجات أسبوعاً متواصلاً وقمعتها الحكومة باعتقالها مئات المحتجين، وأصدرت بحقهم أحكاماً بالسجن لفترات طويلة في محاكمات اعتبرتها المنظمات الدولية غير عادلة. وعلى رغم الثورة الشعبية العارمة لم يُظهر دياز كانيل أي ميل للتحرر السياسي، وبدلاً من ذلك، أصدر الرئيس الكوبي قانوناً جنائياً جديداً في مايو (أيار) 2022 يجرّم المعارضة للحكومة.
لكن هذه الإجراءات لم تثبط عزيمة المعارضين، فاندلعت الاحتجاجات مرة أخرى في أكتوبر (تشرين الأول) 2022 بعد أن ألحق إعصار “إيان” أضراراً بشبكة الكهرباء الكوبية وأدى إلى انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة. وفي مايو 2023، اندلعت احتجاجات جديدة في بلدة كايمانيرا المعزولة، بالقرب من سجن غوانتانامو الأميركي سيئ السمعة، ونزل العشرات من المتظاهرين إلى الشوارع مطالبين بتحسين الظروف المعيشية والحرية.
ويتجلى ارتفاع مستوى عدم الرضا لدى السكان في الاستجابة المنخفضة للانتخابات والاستفتاءات التي تنظمها الحكومة، إذ لم يتوجه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أُجريت، العام الماضي، سوى 24 في المئة من الناخبين إلى صناديق الاقتراع. ونظراً لعدم وجود خصم للحزب الشيوعي الكوبي، كانت هذه هي الطريقة الوحيدة للناخبين لإظهار استيائهم من النظام.
جهود حكومية فاشلة
حاولت الحكومة الشيوعية التخفيف من وطأة الأزمة، فأعلنت، العام الماضي، عن سلسلة من التدابير، تشمل رفع أسعار الوقود والنقل العام، في محاولة للحد من العجز المالي المتزايد، لكن هذه التدابير أدت لارتفاع التضخم وتفاقم الأزمة لكونها جاءت من دون حوافز للإنتاج المحلي.
ولجأ النظام الشيوعي إلى الدبلوماسية وإقامة علاقات ثنائية أفضل مع بعض الدول القوية في العالم، وهكذا أعاد علاقاته بكوريا الجنوبية، وهناك أيضاً محاولات للبحث عن علاقات مثمرة أكثر مع الاتحاد الأوروبي والهند والصين، وعلى رغم انفتاح البلاد على الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ثمة قناعة راسخة داخل وخارج كوبا بأنه سيكون من الصعب جذب الاستثمارات إذ لا يوجد مستثمر قد يرغب بالمخاطرة في بلد يشهد انتفاضات شعبية مستمرة.
بعد سرد كل ما سبق، يتوقع كثيرون من الخبراء أن تتأثر الهياكل الحاكمة الكوبية عاجلاً أم آجلاً بشكل خطير بالأزمة، ويستندون في ذلك إلى حقيقة أن نقص الغذاء والأدوية والوقود كان الدافع للحركات المناهضة للشيوعية في أوروبا الشرقية أواخر ثمانينيات القرن الماضي للتحرر ورفض الأيديولوجيا.