يعيش لبنان منذ سنوات عديدة أزمات اقتصادية غير مسبوقة، وصفها البعض بـ”أزمة القرن الاقتصادية”، بخاصة أن العملة الوطنية، أي الليرة اللبنانية، خسرت كل قيمتها وسجلت مستويات غير مسبوقة.
وفي وقت تبحث الحكومة في خطط مالية واقتصادية، من ضمنها هيكلة المصارف وحل أزمة أموال المودعين، قد يغيب عن بال كثر ما تمتلكه الدولة اللبنانية نفسها.
إذ تحظى الدولة بـ”ذمة مالية مليئة” تضم عدداً كبيراً من الأصول والممتلكات المادية، والمؤسسات الخدماتية، مما يجعلها “كياناً غنياً” من الناحية النظرية بفعل وجود المدخرات التائهة، وهو ما يثير شهية كثير من الكتل السياسية، والمصارف التجارية بوصفها ضمانة لإعادة الودائع. في المقابل تزداد المخاوف من محاولات جدية لتحميل الدولة الحجم الأكبر من الخسائر، على رغم أنها المسؤول الأول والأخير، بنظر خبراء اقتصاديين.
وضمن هذا الفضاء العام المشوش، استقبل مجلس النواب اللبناني أخيراً ثلاثة مشاريع قوانين لإدارة تلك الأصول، تتشابه في بعض القواعد، وتختلف في تحديد الأطر، فإنها تشترك بالتشكيك في قدرة المؤسسات الحالية على الاستمرار وفق معدات العمل الراهنة.
سلة من الأصول
تمتلك الدولة اللبنانية عدداً كبيراً من المؤسسات، التي تشكل الهيكل الخدماتي في البلاد. وتمتلك تلك المؤسسات أنظمة خاصة، واستقلالاً مالياً وإدارياً، وهو ما يعطيها حرية واستقلالية في العمل.
وفي جولة سريعة يمكن رصد مؤسسات متنوعة في لبنان تشكل فعلياً “الهيكل المؤسساتي للدولة”، ومنها شركة أنترا وكازينو لبنان ومطار رفيق الحريري الدولي والمنطقة الحرة في المطار وشركة طيران الشرق الأوسط والشركات التابعة لها وشركتا ألفا وتاتش لخدمات الهاتف المحمول وشركات البريد والهاتف الثابت ومؤسسة أوجيرو ومنشآت النفط في البداوي طرابلس والزهراني جنوب لبنان ومؤسسة الريجي لإدارة التبغ والتنباك ومؤسسة كهرباء لبنان وسكك الحديد والأملاك العقارية الخاصة بالدولة التي يصعب إحصاؤها على وجه الدقة. كذلك تضم الذمة المؤسسات العامة للمياه والنقل العام وتلفزيون لبنان والإذاعة اللبنانية الرسمية، ناهيك ببنك التمويل والإسكان وبورصة بيروت، وليس آخراً حقوق النفط والغاز ذات الثروة الموعودة، ناهيك بالمرافئ البرية والبحرية والمدن الرياضية ونادي الغولف اللبناني ومعرض رشيد كرامي الدولي في الشمال.
اقتراح لبنان القوي
نشطت الكتل النيابية على خط تقديم مشاريع لإدارة أصول الدولة وضمان إعادة الودائع، وأحدثها زمنياً اقتراح تقدم به تكتل “لبنان القوي” المحسوب على التيار الوطني الحر. وينص الاقتراح المقدم على إنشاء مؤسسة تتمتع بالاستقلال المالي والإداري، ولا تخضع لأي نوع من الوصاية. وأشار الاقتراح إلى تحويل المؤسسات العامة إلى شركات مساهمة، وخضوعها لقواعد القانون الخاص، وتحويل ملكية أسهمها بالكامل للصندوق الائتماني بغية “حفظ وإدارة أصول الدولة”.
يعبر اقتراح التيار الوطني الحر عن عدم الثقة بقدرة الدولة على إصلاح ذاتها في ظل الآليات القديمة، لذلك يتجه إلى إقامة مؤسسة جديدة ذات كيان قانوني مستقل. وهذا أمر لا يخفيه النائب سيزار أبي خليل، الذي يؤكد لـ”اندبندنت عربية” الحاجة إلى تجاوز المرحلة الراهنة التي “رسخها الحكم بعد اتفاق الطائف”، إلى “حقبة القوانين” إذ يتم “حصر المؤسسات غير المرضي عن أدائها”، وصولاً إلى “بدء مرحلة الإصلاح الجذري الذي يطاول الهيكل، وإدارة المؤسسات وفق قانون الشركات والاستثمار فيها، وتحسين جودة الخدمات وتوظيف الحاجات أو صرف الكادر غير المنتج”.يقول أبي خليل “المنظومة التي حكمت بعد عام 1990، وأدخلت الذهنية الميليشياوية إلى الإدارة والمؤسسات لم تعمل وفق نهج فريق العمل، وإنما تخصيص المؤسسات لخدمة حزب معين، وصولاً إلى تمويله منها كأنها غنائم حرب”.
ويشدد أبي خليل على “الحفاظ على ملكية الدولة لأصولها”، و”منع تسييل أصول الدولة لسد العجز في الودائع”. ورداً على سؤال حول الضمانات التي تحول دون تكرار التجارب السابقة، وتكريس المحاصصة على غرار عمليات التوظيف بالآلاف التي حدثت عام 2018″، يجيب النائب سيزار أبي خليل “لا ضمانات نهائية”. من جهة أخرى، يأسف أبي خليل من التصويب على القانون من دون الاطلاع عليه ممن وصفهم بـ”المتضررين لأنهم يعتبرون أن هناك وزارة ما حكراً عليهم”، مشيراً إلى أن “مشروع القانون لا يعمل على تسييل أصول الدولة لسداد الودائع، ولكنه يقر بتحمل الدولة مسؤوليتها تجاه المواطنين، وتخصيص ثلث العائدات حصراً لإعادة الودائع المشروعة من دون إبراء ذمة المصارف ومصرف لبنان، حيث يتنازل المودع عن وديعته للصندوق، الذي يصبح دائناً للمصرف التجاري، وتحل الدولة والصندوق في الملكية مكان المودع الأصلي”.
التدقيق في الودائع المشروعة
يتحدث أبي خليل عن “استفادة الودائع المشروعة من عائدات الصندوق حصراً، ولكن بالتأكيد ليس لأصحاب النفوذ”، قائلاً “كيف لوزير لا يمتلك أي عمل آخر سوى السياسة منذ انتخابه نائباً حزبياً في 1996، ولم يرث عقارات عن أهله وأجداده، أن يبرر امتلاكه وديعة بقيمة 10 ملايين دولار، ويطالب باستعادتها من دون تبرير؟”. لذلك، يقترح أبي خليل “إجراء عملية تدقيق شاملة، ولا تستثني أحداً لتحديد مصادر الأموال ومشروعيتها”.
وفي موضوع ذات صلة لا يقل أهمية عن التدقيق بمشروعية الودائع، تطرح مسألة إصلاح وتمكين المؤسسات الرقابية نفسها على أرض البحث. ويقول أبي خليل “نحن ملزمون بتقوية المؤسسات الرقابية، ولكن هذا لا يغني عن إصلاح المؤسسات ذات الإنتاجية الصفرية، وتديرها ذهنية متأخرة، وصولاً إلى تحسين الخدمة للبنانيين، لأن الإصلاح من داخل البنية الحالية أثبت فشله بصورة نهائية، ولا بد من إصلاح الهيكل بأكمله”.
اقتراحات إضافية
جاء اقتراح “الوطني الحر” ليتوج اقتراحات تقدم بها النائبان ميشال موسى وقاسم هشم عن تكتل التنمية والتحرير الذي يعكس رؤية القاضي فادي إلياس، واقتراح تقدم به ستة نواب من تكتل الجمهورية القوية يتضمن تحسين إدارة أصول الدولة وزيادة العوائد.
حمل الاقتراح المقدم من قبل النواب المحسوبين على حركة أمل التي يرأسها رئيس مجلس النواب نبيه بري تسمية “اقتراح قانون يرمي إلى حماية الودائع المصرفية المشروعة وإعادتها إلى أصحابها”. إذ جاء في المادة الثانية منه “ينشئ مصرف لبنان حساباً خاصاً لديه تودع فيه بصورة حصرية المبالغ المخصصة لإعادة أموال المودعين وتسديدها لهم”، كما ينص الاقتراح على إنشاء هيئة مستقلة للمراقبة وللإشراف وللعمل على تفعيل دور كل مرفق عام أو شركة مملوكة من الدولة وكيفية إدارة أي منها، على أن يعين مجلس الوزراء أعضاء الهيئة المستقلة من أشخاص ذوي خبرة وكفاءة. وكذلك هيئة أخرى، للإشراف إدارة على أملاك الدولة العامة والخاصة وتحسين مداخيلها ورفع قيمتها السوقية.
كما يسمح اقتراح القانون هذا بإدارة الدولة أساليب الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وإجراء مناقصة عالمية لإدارة كل مرفق أو قطاع، وأن “تصدر الحكومة سندات مالية طويلة الأجل مضمونة بجزء من إيرادات أصول الدولة”، وأن تقتطع نسبة من عائدات النفط والغاز” وتحول إلى الحساب لدى المركزي، والقيام بإجراء مسح للأملاك العامة البحرية، وتحديد الاعتداءات، والسماح للدولة بتأجير عقاراتها الخاصة بمزاد علني.
أما تكتل الجمهورية القوية فقد تقدم بمشروع “اقتراح قانون يرمي إلى إنشاء مؤسسة مستقلة لإدارة أصول الدولة”، حيث تشدد الأسباب الموجبة للقانون على أن “الحاجة ملحة إلى إدارة أكثر فاعلية للشركات والمؤسسات التابعة للدولة وتحسين عائداتها وتعزيز قيمتها كتدبير خلاق ضمن عدة تدابير، يمكن للدولة استخدامه للمساهمة في حل مسألة تعويض جزء كبير من الخسائر التي اشترك في ترتيبها بذمة المودع عبر السياسات والممارسات كل من القطاع المصرفي والمصرف المركزي والسلطات الدستورية المتعاقبة منذ أكثر من ثلاثة عقود، بمعزل عن نسب المسؤولية في حق كل من المشتركين المذكورين”.
ويقترح تكتل الجمهورية القوية “إنشاء المؤسسة المستقلة لإدارة أصول الدولة”، وهي هيئة خاصة تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي، إذ “تبقى ملكية المؤسسات والمرافق للدولة اللبنانية، على أن تنتقل إدارتها ومهام تشغيلها كافة إلى المؤسسة المستقلة”. أما في ما يتصل بإدارة العقارات تنشأ مؤسسة لإدارة العقارات على صورة شركة قابضة، وتكون “المؤسسة العقارية المستقلة” بمثابة كيان تجاري يتعاطى الأعمال الاستثمارية، ويحقق أرباحاً وخسائر.
انتقادات في الشكل والمضمون
تواجه اقتراحات القوانين المختلفة المذكورة أعلاه سلة من الانتقادات التي تشكك في غايتها النهائية. ويعتقد المحامي كريم ضاهر رئيس الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين أن “الهدف من المشاريع المختلفة هو إدارة أصول الدولة، وهي رغم تضمينها بنوداً تمنع بيع أصول الدولة أو التنازل عن الحصص في الصندوق، فإنها تسمح التنازل عن الأسهم في الشركات التي تدير بعض الأصول، وفي هذا تضارب يمهد للخصخصة”.
يضيف المحامي ضاهر “ثمة رابط مشترك بين مختلف الاقتراحات، ألا وهو التخفيف من مسؤولية المصارف عن الانهيار، في مقابل تحميل الدولة الحصة الوازنة من الأعباء والخسائر والمسؤوليات، إضافة إلى المودعين الصغار. وهذه الاقتراحات معطوفة على ربط النزاع الذي قامت به المصارف التجارية في مواجهة الدولة، تعمل وفق صيغة عندما تدفع الدولة، نعيد لكم ودائعكم”، و”تطبيق قاعدة عفا الله عما مضى، واستمرار كل شيء على ما هو عليه، ونسيان مخالفات ما قبل الانهيار”.
كما يتخوف ضاهر من أن تفتح اقتراحات القوانين شهية الدائنين الأجانب الذين تقدر حصتهم من الودائع قرابة 15 مليار دولار أميركي، في حال توحيد ذمم المؤسسات تحت ذمة واحدة للدولة، مشيراً إلى أنه “قد يلجأ مودعون أجانب إلى الحجز على أصول مصرف لبنان كالاحتياط من الذهب، أو تلك التي تملكها شركة طيران الشرق الأوسط”.
ينوه ضاهر بـ”تجاوز الاقتراحات الراهنة للقانون 520 الصادر في عام 1996، للصناديق الائتمانية، الذي يحصر صلاحية إدارة الصناديق بالمصارف والمؤسسات المالية”، منتقداً “اقتراح إنشاء صناديق ائتمانية من دون وضع تنظيم قانوني له”، ومشدداً على أن “الأخطر في القوانين المطروحة هو إنشاء سلطة مركزية لإدارة أصول الدولة، وفي هذا مخالفة للإصلاحات التي يوصي بها صندوق النقد الدولي لإدارة الشركات التابعة للدولة، لأنها تدعو إلى إصلاحات هيكلية داخلية داخل كل شركة”. ويحذر من “الهرب إلى الأمام من خلال تغيير ولاءات المؤسسات من دون إصلاح فعلي داخل تلك الشركات”.
لا صناديق سيادية قبل تأمين الموارد
تنطلق المشاريع المختلفة من إدانة ضمنية للحقبة الماضية، وإنشاء صناديق لإدارة أصول الدولة، والحفاظ على المداخيل في كيان مستحدث بعيداً من الأطر غير الشفافة، وكأنهم يتخوفون على مصير عوائد الغاز والنفط. يجزم كريم ضاهر أن “لا أحد ينشئ صندوقاً سيادياً من فراغ، ولكن لا بد من وجود فائض في الدخل، تحاول الدولة الحفاظ عليه ومنع المساس به، على غرار ما جرى بالنرويج ودول الخليج عقب مرحلة الاكتفاء الذاتي، وتكريس الإدارة الرشيدة. ولكن في لبنان، تعيش الموازنة حالة عجز، والدولة تتجه إلى لاستدانة من صندوق النقد الدولي وغيره، وهناك حاجة ملحة لإقامة بنى تحتية للبلاد، ومن ثم الحرمان غير مفيد، وستتجه الحكومة إلى تحميل الكلفة من خلال فرض الضرائب”.