أحدثت القوى الديمقراطية المدنية في السودان “تقدم” برئاسة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك اختراقاً جديداً يمهد للعمل على وقف الحرب في البلاد التي شارفت على إكمال شهرها التاسع، حيث وقعت، أمس الثلاثاء، بعد اجتماعات استمرت يومين اتفاقاً مع قائد “قوات الدعم السريع” محمد حمدان دقلو “حميدتي” في أديس أبابا يلزم قواته وقف الأعمال العدائية بشكل فوري وغير مشروط عبر التفاوض المباشر مع الجيش السوداني.
وتضمن الاتفاق إطﻼق ﺳﺮاح 451 ﻣﻦ أﺳﺮى اﻟﺤﺮب واﻟﻤﺤﺘﺠﺰﯾﻦ ﻋﺒﺮ اﻟﻠﺠﻨﺔ اﻟﺪوﻟﯿﺔ ﻟﻠﺼﻠﯿﺐ اﻷﺣﻤﺮ، فضلاً عن ﻔﺘﺢ ﻣﻤﺮات آﻣﻨﺔ ﻟﻮﺻﻮل اﻟﻤﺴﺎﻋﺪات اﻹﻧﺴـﺎﻧﯿﺔ وﺗﻮﻓﯿﺮ الضمانات اﻟﻼزﻣﺔ ﻟﺘﯿﺴـﯿﺮ ﻋﻤﻞ ﻣﻨﻈﻤﺎت اﻟﻌﻤﻞ اﻹﻧﺴـﺎﻧﻲ وﺣﻤﺎﯾﺔ اﻟﻌﺎﻣﻠﯿﻦ ﻓﻲ ﻣﺠﺎل اﻹﻏﺎﺛﺔ بجميع مناطق سيطرتها، إضافة إلى تهيئة اﻷﺟﻮاء ﻟﻌﻮدة اﻟﻤﻮاطﻨﯿن ﻟﻤنازﻟﮭﻢ ﻓﻲ اﻟﻤناطﻖ اﻟﺘﻲ ﺗـﺄﺛﺮت ﺑـﺎﻟﺤﺮب كاﻟﺨﺮطﻮم ودارﻓﻮر وﻛﺮدﻓـﺎن وولاية اﻟﺠﺰﯾﺮة، وذﻟـﻚ ﺑﺘﻮﻓﯿﺮ اﻷﻣﻦ ﻋﺒﺮ ﻧﺸﺮ ﻗﻮات اﻟﺸرطـﺔ وﺗﺸﻐﯿﻞ اﻟﻤﺮاﻓﻖ اﻟﺨﺪﻣﯿﺔ واﻹﻧﺘﺎﺟﯿﺔ.
وأكد الاتفاق أن السلام المستدام في السودان يجب أن يستند إلى وضع حد قاطع لتعدد الجيوش وتشكيل جيش واحد مهني يعبر عن الجميع، وفقاً لمعيار التعداد السكاني، كما أشار الإعلان إلى ضرورة إطلاق عملية شاملة للعدالة الانتقالية، وشدد على أهمية وحدة البلاد شعباً وأرضاً وسيادته على موارده، وأن “المواطنة المتساوية هي أساس الحقوق والواجبات الدستورية، وأن تقوم وحدة السودان على الاعتراف والاحترام للتنوع والتعدد السوداني”.
وتضمن الاتفاق ﺗﺸـﻜﯿﻞ ﻟﺠﻨﺔ وطﻨﯿﺔ ﻣﺴـﺘﻘﻠﺔ ذات ﻣﺼـﺪاﻗﯿﺔ ﻟﺮﺻـﺪ ﻛل اﻻﻧﺘﮭﺎﻛﺎت ﻓﻲ ﺟﻤﯿﻊ أﻧﺤﺎء اﻟﺴـﻮدان وﺗﺤﺪﯾﺪ اﻟﻤﺴﺆوﻟﯿﻦ ﻋﻦ ارﺗﻜﺎﺑﮭﺎ، وذﻟﻚ ﺑﻤﺎ ﯾﻀﻤﻦ ﻣﺤﺎﺳﺒﺘﮭﻢ، وكذلك ﺗﺸﻜﯿﻞ ﻟﺠﻨﺔ ذات ﻣﺼﺪاﻗﯿﺔ ﻟﻜﺸﻒ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺣﻮل ﻣﻦ أﺷﻌﻞ اﻟﺤﺮب.
ونص الإعلان على أن يكون نظام الحكم فيدرالياً ومدنياً وديمقراطياً يختار فيه الشعب من يحكمه عبر انتخابات حرة ونزيهة وفي ظروف سياسية وأمنية ودستورية ملائمة.
سودان جديد
وفي مؤتمر صحافي عقب التوقيع على “إعلان أديس أبابا” قال قائد قوات “الدعم السريع” إنه “على استعداد للتوقيع على وقف الحرب اليوم إذا وافق الجيش السوداني على مخرجات هذا الاتفاق، مبدياً استعداده لأي تحقيق حول من أشعل فتيل الحرب في الخرطوم.
ونوه حميدتي بأن الانقلاب الذي تم في السودان كان مصمماً على الفوضى، مبيناً أن “الدعم السريع” ليست ميليشيات إنما قوات لا يستهان بها، مؤكداً أيضاً أن الإسلاميين هم من خططوا لهذه الحرب وأشعلوها ودمروا السودان وبنيته التحتية، وأعرب عن التزامه بتحقيق سلام عادل وشامل يؤسس لسودان جديد تسوده قيم الحرية والديمقراطية والعدالة.
في حين حث رئيس وزراء السودان السابق عبدالله حمدوك السودانيين على تناسي خلافاتهم الكبيرة والصغيرة والتوحد لإيقاف هذه الحرب، معتبراً “إعلان أديس أبابا” بمثابة وضع اللبنة الأولى لوقف الحرب.
ومن المقرر أن يتوجه اليوم الأربعاء وفد من تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية برئاسة عبدالله حمدوك إلى جيبوتي بدعوة من رئيسها إسماعيل عمر قيلي.
وبحسب المصادر، فإن الزيارة تهدف لاستمرارية الحوار حول الأزمة السودانية ومحاولة البحث عن حلول عاجلة وتعزيز دور “إيغاد” وأصدقاء السودان والاستماع إلى رؤيه القوى المدنية السودانية.
بناء الثقة
القيادي في قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) عروة الصادق علق على مخرجات لقاء القوى المدنية “تقدم” وقائد “الدعم السريع” قائلاً “ما تم من جهود في إثيوبيا خطوة مطلوبة لتثبت جدية الأطراف وتهيئة الأجواء لإجراءات بناء الثقة وتسهيل عمليات التحرك الإنساني بشكل عاجل وفاعل وهي مقدمة لمشروع متكامل وخريطة طريق تضم كل الجهود، فضلاً عن الدعم الدولي والإقليمي”.
وأضاف الصادق “لقد حوى اتفاق أديس أبابا جميع المواضيع الملحة، وعلى رأسها الملف الإنساني وطرق توصيل الإغاثة لمستحقيها، والملف الأمني وكيفية تخفيض التوتر وخلق مناطق ومسارات آمنة لحين الوصول إلى وقف إطلاق نار دائم، إلى جانب الملف السياسي وسبل الوصول إلى عملية سياسية شاملة تنهي الصراع كلياً في السودان، إضافة إلى المظالم الناجمة عن انتهاكات القوات على الأرض، التي تستوجب المساءلة والتحقيق”.
وأشار القيادي في الحرية والتغيير إلى أنه “في سبيل ذلك قدمت القوى المدنية تصورات عملية لكل ملف بصورة تفصيلية وتم مناقشتها بشفافية ووضوح مع وفد الدعم السريع، كما سيتم بحثها مع وفد الجيش بقيادة عبدالفتاح البرهان في مقبل الأيام تمهيداً للوصول إلى تصور مشترك بين الجميع لوقف الحرب وإنهاء الصراع، وتعد جميع هذه الملفات من الأولويات المهمة لذلك تمثل خريطة الطريق للحل، وحتماً إذا صدق الجميع سننجز اتفاقاً عاجلاً ومستداماً”.
وقف العدائيات
من جانبه، يرى أستاذ العلوم السياسية في الجامعات السودانية عبده مختار أن “ما ورد في إعلان أديس أبابا من الناحية النظرية مجهود مقدر وممتاز، لأن غايته الوصول إلى وقف إطلاق النار بين الطرفين المتحاربين، وبناء السلام ابتداء من هذه التفاهمات التي جاءت في البيان المشترك لختام اجتماعات الدعم السريع والقوى المدنية”، ومن ضمنها وقف العدائيات وإيصال المساعدات الإنسانية للمواطنين المحاصرين في مناطق القتال، كذلك ما يميز هذا الإعلان أن هناك جهة محايدة تشرف على تنفيذ وقف إطلاق النار وآليات للمراقبة، فضلاً عن وجود لجنة من الشخصيات القومية تقوم بمعالجة آثار الحرب والمشكلات الإنسانية”.
وقال مختار إن “من المهم أن يتكون مجلس حكماء عقب وقف إطلاق النار يتولى إدارة هذه المرحلة كجهة مدنية محايدة تهيئ المناخ للتفاوض بين الطرفين بعد أن فشلت الأطراف الخارجية في ذلك، حيث بات كل طرف من طرفي الحرب يشكك في الوسطاء الدوليين والإقليميين، لكن مشكلتنا كسودانيين في التنفيذ، إضافة إلى أنه هل سيوافق الجيش السوداني على مبدأ التفاوض مع الدعم السريع على أن يكون جزءاً من الحل السياسي”.
وحول تطورات الوضع العسكري، أفاد بأن “التقييم الموضوعي والواقعي لتطورات العملية العسكرية يشير إلى تمدد قوات الدعم السريع وامتلاكها زمام المبادرة، حيث باتت في وضع هجومي مستمر، بينما يوجد الجيش في مناطق محددة وفي حالة دفاع في الغالب، وأصبحت تحركاته في عمليات التمشيط بمدن وأحياء العاصمة محدودة، فعديد من الولايات سيطرت عليها قوات الدعم السريع من دون مقاومة عسكرية تذكر ما عدا مدينة الأبيض عاصمة شمال كردفان التي استعصت عليها، مما أحدث نوعاً من الإحباط للشعب السوداني”.
وأكد أستاذ العلوم السياسية أن المنطق والعقل يقول “لا بد من وقف هذه الحرب حتى لا تزهق مزيد من الأرواح والدماء ومزيد من موجات النزوح والتشرد وتدمير الدولة والبنية الأساسية، وهذا يتطلب جلوس طرفي النزاع في مائدة المفاوضات والوصول إلى حل ينهي هذا القتال، على أن تتولى الفترة الانتقالية كفاءات مستقلة وليس حزبية كما حدث في الفترتين الانتقاليتين السابقتين (1964، و1985) مع إبعاد كل أطراف الأزمة من أي دور يتعلق بالحكم”.
العمليات العسكرية
عسكرياً، تواصلت المواجهات العسكرية على جبهات الحرب المختلفة، وبحسب شهود عيان، فإن طرفي القتال تبادلا، أمس، القصف المدفعي العنيف من منصاتهما بمدن العاصمة الثلاث، إذ قصف الجيش بالمدفعية الثقيلة مواقع “الدعم السريع” حول أرض المعسكرات والمدينة الرياضية وكذلك محيط سلاح المدرعات جنوب الخرطوم.
وفي المقابل استهدفت قوات “الدعم السريع” القيادة العامة للجيش الواقعة وسط العاصمة عن طريق المدفعية الثقيلة المنطلقة من مواقع تمركزاتها في شرق وجنوب الخرطوم، وسمع شهود عيان دوي انفجارات قوية وتصاعد لأعمدة الدخان بكثافة في تلك المنطقة.
وظلت القيادة العامة للقوات المسلحة تتعرض باستمرار لهجمات من قبل قوات “الدعم السريع”، الراغبة في السيطرة عليها، لكن من دون جدوى في ظل استماتة أفراد الجيش في الدفاع عن مقر قيادتهم.
كذلك شن الطيران الحربي التابع للجيش غارات جوية مكثفة استهدفت مواقع وتجمعات تتمركز فيها قوات “الدعم السريع” بكل من مدينتي ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة وسنار.
وتسيطر قوات “الدعم السريع” على كامل ولاية الجزيرة منذ 18 ديسمبر (كانون الأول)، بعد انسحاب مفاجئ للجيش السوداني من مواقعه الدفاعية بود مدني، مما أدى إلى فرار آلاف المدنيين، فيهم نازحو ولاية الخرطوم الذين وصلوا إلى هذه الولاية منذ الأيام الأولى لاندلاع القتال في الخرطوم.
ووفقاً لتغريدة للجان مقاومة ود مدني على منصة “إكس” فإن “الطيران الحربي التابع للجيش قصف أهدافاً في محيط قيادة الفرقة الأولى مشاة بالمدينة، علاوة على السوق الكبيرة”.
كما قصف الطيران الحربي أهدافاً متحركة لقوات “الدعم السريع” بقرية ود العباس الواقعة شرقي ولاية سنار، حيث تتمركز تلك القوات بكثافة بالقرب من مصنع سكر سنار قاصدة التقدم لوسط المدينة، ولكن دفاعات الجيش المتقدمة غربي المدينة تتصدى باستمرار لمحاولات توغلها لعمق المدينة.
وقال محامي الطوارئ، إن سلاح الجو التابع للقوات المسلحة قام بقصف لم يحقق أهدافاً عسكرية وتسبب في مقتل طفلين من مواطني قرية ود العباس شرق سنار وإصابة آخرين.
واستنكر بيان لمحامي الطوارئ عملية القصف العشوائي الذي تمارسه القوات المسلحة في مناطق مأهولة بالمدنيين، خصوصاً أن هذه القرية لا يوجد بها أي تجمع لقوات “الدعم السريع”.
وأضاف “نذكر بالمسؤولية الجنائية المترتبة على عدم التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية وأن ذلك يقع بالمخالفة للقانون الدولي الإنساني في معاهدة جنيف الرابعة في شأن حماية المدنيين، وكذلك يخالف القانون الجنائي الدولي، ويجعل مرتكبي هذه الأفعال تحت بروتوكول روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية”.
وبحسب مواطنون، فإن قوات “الدعم السريع” ما زالت تمارس عمليات نهب واسعة لسيارات ومنازل المواطنين، في القرى المحيطة بمدينة سنار.
عقوبات رادعة
إلى ذلك، طالبت مجموعات نسوية سودانية الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان بفرض عقوبات على قادة طرفي الحرب في السودان وإحالة جرائمهم لمحكمة الجنايات الدولية حال تماطلهم في الاستجابة لوقف القتال.
وشددت المجموعات النسوية عبر مذكرة الأمم المتحدة على ضرورة حظر طيران الجيش ووقف صناعة الميليشيات وتسليح المواطنين فوراً ومنع تمدد الحرب من “الدعم السريع” وإجبارها على الخروج من المدن ومنازل المدنيين.
ودانت المذكرة توزيع السلاح العشوائي وسط العزل وتصعيد خطاب الكراهية من قبل طرفي الحرب في السودان، مطالبة في الوقت نفسه بتدابير أممية لحماية المدنيين.
وحضت المذكرة على ممارسة الضغوط الكافية على طرفي الصراع لإيقاف الحرب وعدم توسيعها، وطالبت بفتح ممرات آمنة لدخول المساعدات الإنسانية والإسراع في إعادة النازحين واللاجئين ووضع حلول للمآسي التي يتعرضون إليها.
كما دعت المذكرة الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان إلى تحديد فترة زمنية لتنفيذ المطالب التي حوتها، وفي حال عدم الإيفاء تعمل المنظمة الأممية على إيقاع عقوبات على قيادات أطراف الحرب وإحالة جرائمهم لمحكمة الجنايات الدولية.
تجاوزات وتمادي
دبلوماسياً، أبدت وزارة الخارجية السودانية عدم رضاها حيال تصريحات نظيرتها الأميركية في شأن ما يجري من تجاوزات على يد قوات “الدعم السريع”، مؤكدة أن واشنطن لم تتحدث صراحة عن الجهة التي ترتكب الانتهاكات الجسيمة.
وكان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قال في بيان بمناسبة ذكرى استقلال السودان، إن الصراع بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” أدى إلى ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وقالت الخارجية السودانية في بيان، إن قوات “الدعم السريع” تتمادى في جرائمها لتشمل مناطق ريفية لا توجد في بعضها حتى أقسام للشرطة، كما يحدث في ولاية الجزيرة، حيث ارتكبت خلال الأيام الماضية مذبحة ضد المدنيين العزل في المدينة عرب، راح ضحيتها أكثر من 11 شخصاً، منوهة إلى تكرارها للتصفيات على أسس عرقية في ود مدني على ذات النسق الذي وقع بدارفور، مع استخدامها أساليب إرهابية للتجنيد القسري للشباب والأطفال في الولاية.
وواصل البيان “كان من المتوقع أن يشير الوزير الأميركي للمجازر العرقية لتي ترتكبها قوات الدعم السريع، بقتلتها حتى للأطفال الرضع الذكور من القبائل التي تستهدفها، وهو ما يمثل جريمة إبادة جماعية”، لافتاً إلى أن بيان الوزير الأميركي تجاهل الإشارة لتنصل الميليشيات عن التزاماتها بموجب إعلان جدة للمبادئ الإنسانية الموقع منذ 11 مايو 2023.