على الرغم من أن معظم الأدبيات السياسية المتعلقة بالشرعية تركز على الدولة والحكومة التي تمثلها، فإن الجماعات المتمردة والحركات المسلحة وأمراء الحروب على مر الزمن ظلوا يطالبون أيضاً بالشرعية. ولذلك تجتهد هذه الجماعات في الحصول عليها بوسائل شتى، منها الادعاء بأنها تمثل سكان وجماعات معينة لديها مطالب مستحقة. ومع أن أغلب هذه الجماعات خصوصاً في أفريقيا برعت في التسلق عبر المظالم والتهميش والبحث عن الحقوق حتى تحصل على شرعيتها، ولكن هناك جماعات أخرى صُنفت إرهابية، ولكنها أخيراً حصلت على الشرعية أيضاً.
خلال الحرب الأهلية في جنوب السودان وبعد صراع طويل من أجل الانفصال، قال زعيم “الحركة الشعبية لتحرير السودان” جون قرنق دي مبيور، قبل محادثات السلام في نيفاشا عام 2005، إن حركته استقت من قبائل جنوب السودان، ومنها قبيلته الأم “الدينكا”، تقليداً ديمقراطياً طويل الأمد وهو أن الرجال يجتمعون تحت ظل شجرة كبيرة لمناقشة الأمور المهمة، وأن زعيم القبيلة يُنتخب ويُزكى عبر الروابط الأسرية وعلاقات الدم التي تُضفي الشرعية على قراراته، وبالتالي على شكل الحكم السياسي. وفي ما يبدو أن رعاة السلام والمجتمع الدولي الذين أشرفوا على اتفاق ميشاكوس في عام 2002 لحل مشكلة الجنوب، افتتنوا بهذه التقاليد وذهبوا في اتجاه تقرير المصير حتى يتحول الجنوبيون إلى دولة ويطبقوا الديمقراطية بعد انفصال الإقليم الذي حصلوا عليه في عام 2011.
بدأت الحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة وشرق السودان في إبراز تقاليدها المشابهة، وتوصلت مع النظام السابق بعد جهود إلى تطبيق “المشورة الشعبية” ولكنها لم تحصل على الانفصال أو الحكم الذاتي. أما قوات “الدعم السريع” فقد بدأت كجزء مساند للجيش، ولكن بعد أن شاركته الحكم خلال الفترة الانتقالية، أخذت تنادي بتطبيق الديمقراطية. وبقيام الحرب منذ أبريل (نيسان) الماضي، اتضح أن قائد قوات “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو (حميدتي)، خطّ طريقاً موازياً، كشفت عنه جولاته الإقليمية التي بدأها في الـ27 من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، إلى أوغندا، وإثيوبيا، وجيبوتي، ثم جنوب أفريقيا التي كان لها دور فاعل في توقيع اتفاق السلام بين الحكومة الإثيوبية و”جبهة تحرير تيغراي”، في بريتوريا في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، ثم أخيراً رواندا التي زار فيها المتحف التذكاري للإبادة الجماعية بالعاصمة كيغالي.
زخم التوقيع
ونشطت “الهيئة التنسيقية للقوى الديمقراطية المدنية” برئاسة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك التي تكونت حديثاً، في الدعوة إلى عقد لقاء مع قائد الجيش عبدالفتاح البرهان وقائد قوات “الدعم السريع”، للبحث في قضايا حماية المدنيين وتوصيل المساعدات الإنسانية وسبل وقف الحرب عبر المسار السلمي التفاوضي. استجاب حميدتي لهذه الدعوة، ووقع مع حمدوك “إعلان أديس أبابا”، وجاء فيه التأكيد على “استعداد الدعم السريع التام لوقف الهجمات فوراً وبشكل غير مشروط عبر تفاوض مباشر مع القوات المسلحة”. كما تعهد “فتح ممرات آمنة لوصول المساعدات الإنسانية، وتهيئة الأجواء لعودة المواطنين لمنازلهم في المناطق التي تأثرت بالحرب”.
ومع أن “إعلان أديس أبابا” أبدى حسن النوايا وتجاوباً فورياً وتنازلاً عن عدد من الشروط وتمسكاً بأخرى، إلا أنه واجه تبايناً واسعاً بين تأييد بأن ما تم هو أقصر الطرق نحو السلام وأن أي يوم إضافي يقضيه السودانيون في هذه الحرب ستكون خسائره أكثر فداحة مما مضى، واعتراض إذ انتقد كثيرون الاتفاق وشككوا في أهدافه، خصوصاً بعد الاتهامات التي تلاحق “الدعم السريع” بارتكاب جرائم التطهير العرقي في دارفور والاغتصاب الممنهج في مناطق الحروب. ورأى هؤلاء أن توقيع “حميدتي” الاتفاق مع القوى المدنية يمنح قواته الشرعية التي تبحث عنها، محلياً وإقليمياً ودولياً. كما من شأنه أن يُكسب “حميدتي” شرعية تضمن وجوده بقوة في المفاوضات القادمة، ولم يكن للتوقيع أن يكتسب كل هذا الزخم لو أنه تم كما كان مرتباً له، كاتفاق بين البرهان وحميدتي.
مكاسب سياسية
عند قيام حميدتي بجولته الأفريقية الأخيرة، أعاد إلى الأذهان الجولة التي أجراها البرهان آخر العام الماضي وتزامنت مع جولات مستشاري “الدعم السريع” أثناء فترة غياب قائد تلك القوات. وهذه الجولات بنسختها الأولى والأخيرة هي بحث عن شرعية إقليمية ثم دولية يسعى كل طرف من خلالها إلى حسم معركته مع الآخر، على رغم تكرار الإعلان عن رغبتهما في وقف الحرب والتوصل إلى حل شامل. أما منظمة “إيغاد” فتعمل باتجاه موافقة الطرفين على التفاوض.
وأهم ما يميز تحركات حميدتي خلال هذه الجولات، هي أنه أولاً، قام بجولاته بالزي المدني ما يعني أنه يسوق نفسه كسياسي وليس عسكري، واستُقبل بمراسم رؤساء الدول. ومع أن المظهر العسكري أو المدني ليس حاسماً تماماً لدى الرؤساء الأفارقة، ولكن الدول التي زارها ليست انقلابية، فهي إما تحكم بنظام ديمقراطي أو شبه ديمقراطي أو ديكتاتورية شبه مستقرة.
ثانياً، وفر له التقدم الميداني خلال الحرب ثقة عالية في مخاطبة مضيفيه والتحدث باسم السودان وناقش معهم كيفية وقف الحرب، وكأنه هنا يستعد إلى الانتقال إلى ما بعد وقف الحرب.
ثالثاً، أبدى حميدتي حماسه لإجراء انتخابات ديمقراطية، نافياً ارتكاب قواته مظاهر العنف والانتهاكات أثناء الحرب، ونسبها لمتفلتين يرتدون زي “الدعم السريع”، وبهذا فهو يحقق مكاسب سياسية في حربه ضد الجيش.
موقف الخارجية
بسبب غياب قائد “الدعم السريع” منذ بداية الحرب وحتى ظهوره أخيراً، لم يكن متوقعاً قيامه بجولات خارجية قبل امتصاص الصدمة من كثيرين، كما لم يكن متوقعاً تقديم نفسه كزعيم سياسي فيما كانت قيادة الجيش تترفع عن مقابلة بديل عنه للتفاوض. الموقف الرسمي لقائد الجيش عبرت عنه وزارة الخارجية أيضاً، التي انتقدت استقبال دول الجوار لقائد “الدعم السريع”، قائلةً إن “استقبال أي جهة معادية للدولة لا تعترف بالحكومة القائمة يعتبر عداء للدولة”. واستدعت سفيرها لدى نيروبي للتشاور، في تعبير احتجاجي على استقبال كينيا قائد “الدعم السريع”.
كما وصفت الخارجية السودانية الجولة بـ”الحملة الدعائية الكاذبة”، وانتقدت توقيع حميدتي على اتفاق “أديس أبابا”، في تأكيدها بأن توقيع قائد قوات “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو (حميدتي) اتفاقاً مع مجموعة سياسية مؤيدة له قد يمهد لتقسيم البلاد.
وأكدت الخارجية السودانية التزامها إعلان جدة للمبادئ الإنسانية الموقع منذ 11 مايو (أيار) الماضي، بوصفه “إطاراً قانونياً وسياسياً ملزماً لمعالجة المسائل الإنسانية ووقف إطلاق النار وبدء عملية السلام، ما من شأنه وضع نهاية مبكرة للأزمة”.
بناء الشرعية
ومن أهم الأحداث التي أعطت قوات “الدعم السريع” الشرعية في مجتمعها المحلي، استخدامها من قبل حكومة البشير لمحاربة الحركات المسلحة الأخرى من دارفور منذ عام 2003 حين كانت تحمل اسم “الجنجويد”.
كما حصلت على الشرعية الإقليمية والدولية حينما استعان بها الاتحاد الأوروبي في مكافحة تهريب البشر واللاجئين غير الشرعيين في طريقهم من الدول الأفريقية عبر السودان وإلى أوروبا عبر البحر المتوسط. وابتدأت صياغة مشاريع هذا التعاون للحصول على تمويل أوروبي منذ الإعلان عن “عملية الخرطوم” بين الاتحاد الأوروبي ودول القرن الأفريقي لمكافحة أسباب وتبعات الهجرة غير الشرعية في عام 2014. وزوّد الاتحاد الأوروبي، حكومة السودان بالمال لمواجهة الهجرة غير الشرعية إلى دوله. وأعلنت الحكومة السودانية في عام 2016 أنها نشرت الآلاف من قوات “الدعم السريع” على الحدود بين السودان وليبيا لوقف عبور اللاجئين. وألقت القوات القبض على مئات اللاجئين، وكان حميدتي من خلال مساومته الاتحاد الأوروبي برفع الأجر في هذا التعاون، ينظر أكثر إلى هذا التكليف الأوروبي على أنه اعتراف دولي بقواته، ربما تسهم في خروجه من دائرة الاتهام بارتكاب انتهاكات خلال حرب دارفور.
ومنذ ذلك الوقت حافظت قوات “الدعم السريع” على شرعيتها من خلال تكتيكات مختلفة فاستهدفت جماهيرها المحلية، وحصلت على غطاء قانوني لتجارتها في الذهب من النظام السابق ليستمر هذا النشاط بعد الانتفاضة وسقوط النظام.
بناء الشرعية هو أيضاً عملية متعددة الأبعاد، إذ إنها تنطوي على بعدين، مادي ورمزي، ويعزز كل منهما الآخر. ويتعلق البعد الرمزي لبناء الشرعية بالعمليات التي تنشرها قوات “الدعم السريع”، على سبيل المثال التصرف في الأعيان المدنية نيابة عن السكان، وزيادة التطابق بين سلطاتهم والسكان أو شرائح معينة منهم، والحديث عن الثورة والديمقراطية والإشارة إلى الحرية والكرامة، وإزالة التهميش والعنصرية، وانتقاد دولة الاستقلال “56” التي، بحسب خطاب حميدتي الأخير، تعد بعض السكان مواطنين من الدرجة الثانية.
أما البعد المادي للشرعية، فيتعلق بالطريقة التي توفر بها قوات “الدعم السريع” الخدمات لتلبية توقعات السكان، فتقديم الخدمات والمساحة التي توزع فيها تتعلق بقرار استراتيجي تتخذه قيادة “الدعم السريع”، من أجل الحصول على حالة من التعاون. كما أن قرار الحكم وتسيير أمور السكان يعتمد على تنشيط ديناميات الحرب بالتفاوض، مثل تفعيل وقف إطلاق النار أو الانسحاب من مناطق معينة وفتح ممرات آمنة.
السلطة القسرية
في الأشهر الأولى بعد سقوط نظام البشير، كان الثوار في ميدان القيادة العامة للقوات المسلحة يهتفون لحميدتي بأنه هو من يقدر على تخليصهم من أتباع النظام السابق، إذ لم يكن في تلك الفترة قد تم تجسير الهوة بين المواطنين والجيش باعتباره تابعاً للنظام السابق من خلال تدجينه، ورفده بأعضاء التنظيم الإسلامي خلال ثلاثة عقود. وفّر هذا الواقع، شرعية ثورية لقوات “الدعم السريع” وبمرور الوقت اكتسبت القدرة على ممارسة الحكم بحصول قائدها على منصب نائب رئيس مجلس السيادة. بعد الحرب أصبحت القوات تتعامل كبديل للجيش، وللدولة الغائبة من خلال ثلاثة عناصر هي السيطرة على الأراضي، وعلى السكان، وممارسة العنف. ولهذا كله فإن حميدتي يبدو الآن كأي زعيم سياسي يسعى إلى جعل مطالبته بالسلطة تبدو مشروعة، وذلك لأن بقاء قواته شبه العسكرية في هذه المحطة من ممارسة الانتهاكات لا توصله إلى السلطة، فلا بد من إضفاء الشرعية على علاقات السلطة. وتحقق جزءاً من هذه الوصفة الأخيرة جولات حميدتي الأفريقية، إلى أن يتم التفاوض مع البرهان حول تشكيل الدولة، أو فرضها بحكم الأمر الواقع.
غطى غبار الحرب على حقيقة هذا الانتقال إلى مركز القوة، لدرجة أن كثيرين اتهموا قيادة الجيش بالتواطؤ لإفساح المجال لـ”الدعم السريع”. فهجوم “الدعم السريع” واستيلاؤها على مقار عسكرية مهمة لا يبدو منطقياً، وانسحاب الجيش من ود مدني وترك المدينة لـ”الدعم السريع” وخلوها من أي مظاهر حماية عسكرية لا تبدو مبررة حتى باتهامات الخيانة. وبالنظر إلى خط سير العمليات العسكرية من الجانبين، وتقبل الجيش لكثير من النتائج الكارثية وعجزه عن حماية المدنيين، يمكن أن يُفسَّر في إطار عملية الانتقال من السلطة القسرية إلى الشرعية، وهو سيناريو جاء به من قبل الباحث في العلوم السياسية روبرت دال بقوله “تسعى السلطة العارية أي القسرية دائماً إلى إلباس نفسها ثياب الشرعية”.