في أواخر العام الماضي، سألت الرئيس السابق لمديرية الاستخبارات الرئيسة في وزارة الدفاع الأوكرانية خلال 2015 و2016 فاليري كوندراتيوك عن توقعاته لتاريخ انتهاء النزاع العسكري في بلاده، فأجاب أن فلاديمير بوتين رئيس الدولة التي تسيطر على 20 في المئة من الأراضي الأوكرانية يأمل في أن يفوز الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب مجدداً، لذلك لا أحد يتوقع نهاية قريبة للقتال حتى تاريخ تصويت الأميركيين في الـخامس من نوفمبر المقبل في أقل تقدير.
وقال ضابط الاستخبارات الأوكراني، “في أحلامه، ينتظر بوتين عودة ترمب للولايات المتحدة، لكن ترمب اليوم لا يشكل تهديداً لأوكرانيا فحسب، بل لأوروبا وللصين أيضاً”.
ولا يأخذ سيد الكرملين في الاعتبار أن ترمب هو العدو المشترك لكل من الرئيس الأميركي جو بايدن والزعيم الصيني شي جينبينغ، ومعظم قادة دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي، وفق كوندراتيوك.
هدية لبوتين
صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية كتبت بدورها في الـ31 من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أنه “إذا فاز دونالد ترمب بالانتخابات الأميركية المقبلة، فستكون هذه هدية كبيرة لفلاديمير بوتين”.
وذكرت الصحيفة الفرنسية في افتتاحيتها أن بوتين يعتزم تعزيز إنجازاته في العام الجديد وهو ينوي إظهار “أقصى حدود قوته” أمام كييف وأمنائها الغربيين.
لذلك ومع تزايد احتمالات عودة ترمب لشغل مقعده المفضل في المكتب البيضاوي في واشنطن، ترتجف أوروبا ليس من البرد في هذا الشتاء القارس، بل من احتمال تركها تواجه بوتين بمفردها.
وتشعر ألمانيا بالإحباط بصورة متزايدة إزاء مدى تفوق دعمها العسكري لأوكرانيا على دعم أقرانها في الاتحاد الأوروبي، فالتحدي الأمني الأكبر الذي تواجهه أوروبا، منذ انتهاء الحرب الباردة، هو الاحتمال المخيف المتمثل في الحاجة إلى تمويل أوكرانيا وتسليحها من دون دعم الولايات المتحدة المنشغلة في خلافات أعضاء الكونغرس داخل أروقة الكابيتول وفي معركة الانتخابات الرئاسية حامية الوطيس.
شبح ترمب
لم يؤدِّ الفوز الواضح الذي حققه دونالد ترمب في المؤتمر الانتخابي بولاية آيوا الأميركية الأسبوع الماضي، إلا إلى تفاقم الأخطار، مما يزيد من صدقية المخاوف بأن تترك أوروبا لمصيرها، وأن يتم التخلي عنها لترسم طريقها الخاص ضد روسيا إذا استعاد ترمب موقع الرئاسة وكرسيه في نهاية المطاف.
فإذا انتخب الأميركيون ترمب، فإن المساعدات لأوكرانيا ستنخفض في الأقل إلى حد كبير وهذا أمر واضح، بل إنه أحد الأسباب الكثيرة التي تجعل احتمال انتخاب رجل الأعمال المثير للجدل يقض مضاجع العالم الغربي بأكمله، ويبعث كثيراً من الارتياح في الكرملين لأنه في أعماقه يتعاطف مع أمثال بوتين وكيم جونغ أون أكثر من تعاطفه مع الحلفاء الغربيين.
وإذا لم يُنتخب ترمب، فسيظل السؤال قائماً حول ما إذا كان الجمهوريون والديمقراطيون في الكونغرس قادرين على الاتفاق على استمرار المساعدات لأوكرانيا وزيادتها. ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال.
وفي مواجهة هذا الخطر ووراء كل الابتسامات والمصافحات المتوقعة في أوروبا، سيضغط المستشار الألماني أولاف شولتز على زعماء الاتحاد الأوروبي للتحرك وتقديم مساهمات أكبر لردع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وبعدما بدأ المستشار الألماني يبتعد كثيراً في معارضته لسياسات الكرملين، سيشرع في تحريك الأمور الدبلوماسية من خلال الضغط على دول الاتحاد الأوروبي الأخرى لتفصيل الأسلحة التي ترسلها إلى الجبهة، في ما يبدو وكأنه محاولة إثارة موضوع التزامات أوروبا العسكرية الكئيبة، لتسمية وفضح أقرانه قبل قمة المجلس الأوروبي في الأول من فبراير (شباط) المقبل التي سيشارك فيها.
لا عجب أن برلين تتألق وتأتي ألمانيا في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في تقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا، إذ قدمت مساعدات تقدر بـ 17.1 مليار يورو (18.6 مليار دولار) حتى أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، وفقاً لإحصاء أجراه معهد “كيل” للاقتصاد العالمي.
في المقابل، أسهمت فرنسا بنصف مليار يورو فقط (نحو 544 مليون دولار) وإيطاليا 700 مليون يورو (762.5 مليون دولار)، وأخيراً إسبانيا 300 مليون يورو (326.8 مليون دولار).
كلمات… كلمات
وكما هي الحال دائماً، سارع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الرد على نتيجة ولاية آيوا التي رفعت أسهم ترمب بخطابه التقليدي حول بقاء أوروبا بمفردها “الاستقلال الاستراتيجي” كما سماه.
وقال ماكرون للصحافيين في اليوم التالي للتصويت، “هذا يظهر أن أوروبا يجب أن تكون واضحة في شأن الولايات المتحدة”، مضيفاً أنه “لهذا السبب نحتاج إلى أوروبا أقوى، قادرة على حماية نفسها ولا تعتمد على الآخرين” لحماية أمنها في مواجهة بوتين.
وربما إدراكاً منه للإحباط المتزايد في شأن عدم دعم باريس لهذا الحديث بالأفعال، أعلن ماكرون عن تسليم 40 صاروخاً بعيد المدى من طراز “سكالب” و”مئات عدة” من القنابل إلى أوكرانيا خلال الأسابيع المقبلة.
أميركا وبوتين
خلال الأيام الأولى للعملية العسكرية الروسية واسعة النطاق ضد أوكرانيا، كانت المساعدات العسكرية الأميركية، مقترنة بعزيمة كييف، هي التي صدت هجوم موسكو.
وفي هذه الأثناء، كان ينظر إلى ألمانيا على أنها مترددة ومتخوفة وغير قادرة أو غير راغبة في منح أوكرانيا الأسلحة التي تحتاج إليها للدفاع عن نفسها، فعلى سبيل المثال تطلب الأمر ضغوطاً دولية هائلة لإقناع شولتز بالسماح بتسليم دبابات “ليوبارد 2” الألمانية الصنع إلى أوكرانيا.
ومرة تلو الأخرى، قال المسؤولون الألمان إنهم لا يريدون إرسال أسلحة ثقيلة حتى يفعل الأميركيون ذلك، لذا من المحتمل أن يختفي ترف انتظار موافقة واشنطن إذا فاز ترمب وترك القارة العجوز تواجه مصيرها بنفسها.
وفي حين تظهر أعداد الأسلحة التي تم تسليمها أن الديناميكية تتغير الآن، فإن ألمانيا لم تكن قادرة على زعزعة سمعتها كقوة مترددة، وهي حقيقة يعترف مسؤولون ألمان رفيعو المستوى بأنها مصدر إزعاج في المحادثات الخاصة.
وداخل ألمانيا، يشكل خطر ترك برلين تحمل طفلها في أوكرانيا مصدر قلق متزايد، بخاصة بالنسبة إلى دولة تتمتع بحس تاريخي أكبر بكثير من فرنسا بالأخطار التي تفرضها روسيا.
وقال شولتز في وقت سابق من هذا الشهر إن “شحنات الأسلحة التي خططت لها غالبية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حتى الآن لأوكرانيا صغيرة للغاية بكل المقاييس. نحن في حاجة إلى مساهمات أعلى”.
إكسير الحياة
ويسود مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل شعور متزايد بأن الأخطار آخذة في الارتفاع وبأن أوروبا لم تعُد قادرة على التراجع عن تقديم الدعم لأوكرانيا. وفي ديسمبر الماضي، استطاع رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، حليف بوتين، منع الاتحاد الأوروبي من إرسال إكسير حياة تحتاج إليه كييف بشدة قيمته 50 مليار يورو (54 مليار دولار) لاقتصاد الحرب المدمر في أوكرانيا.
وبعد يوم واحد من اجتماع الحزب الجمهوري في ولاية آيوا، تعهدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين التي تبدو حازمة بإيجاد طريقة للموافقة على الأموال خلال قمة الأول من فبراير المقبل، مهما كانت الظروف، وفي حين قالت إنها تفضل اتخاذ قرار بالإجماع من قبل جميع الدول الأعضاء الـ27 في الاتحاد الأوروبي، أصرت على أنها مستعدة لتجاهل المجر ببساطة إذا لزم الأمر.
ولكن السؤال الرئيس الذي يطرحه المسؤولون الأوروبيون هو ما إذا كانت القارة العجوز قادرة على الحلول محل القوة الأميركية الصارمة والهائلة، بخاصة في ضوء أدائها الضعيف في تعزيز الإنتاج الصناعي في محاولة لتلبية حاجات أوكرانيا.
وتقول بريطانيا وفرنسا إنهما تدخلان في اتفاقات أمنية مع أوكرانيا، لكن من غير الواضح إلى أي مدى سيفيد ذلك كييف ومقاومتها من دون دعم الولايات المتحدة.
بدوره، أوضح فرانسوا هيسبورغ أحد كبار مستشاري أوروبا في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية لصحيفة “بوليتيكو” أن رحيل الولايات المتحدة يشكل نقطة انعطاف تاريخية محتملة.
وقال “نحن غير مستعدين لهذا التغيير كما كنا مستعدين لنهاية الحرب الباردة عام 1989″، معتبراً أن تصنيف ألمانيا كثاني أكبر مانح عسكري بعد الولايات المتحدة هو أمر مضلل إلى حد ما، مضيفاً أن برلين احتفظت بكثير من مخزونها من الحرب الباردة وزودت أوكرانيا فقط بعدد من الأسلحة القديمة.
وتابع أن “هناك فرقاً حقيقياً هو أن الفرنسيين والبريطانيين يقدمون أسلحة ذات أهمية استراتيجية ومفيدة، في حين أن الألمان لا يفعلون ذلك، فالألمان يقومون بضبط الصندوق”.
وواصلت برلين بالفعل رفض تزويد أوكرانيا بصواريخ “توروس” الدقيقة بعيدة المدى خوفاً من إمكان استخدامها لضرب الأراضي الروسية.
ما العوامل المؤثرة في موقف بوتين؟
بحسب المتخصصين فإن موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أوكرانيا وحربه عليها يتحدد بعوامل عدة، منها أن مصلحة روسيا الاستراتيجية تتلخص في الحفاظ على نفوذها في منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي، بخاصة البحر الأسود، حيث تقع شبه جزيرة القرم وسيفاستوبول، فضلاً عن طرق عبور إمدادات الغاز والنفط إلى أوروبا، وكذلك العلاقات التاريخية والثقافية بين الشعبين الروسي والأوكراني التي أكدها بوتين مراراً وتكراراً في خطاباته ومقالاته، إذ يعتقد “القيصر” بأن الأوكرانيين والروس هم شعب واحد تم تقسيمه بصورة مصطنعة.
ثم يأتي الوضع السياسي الداخلي في روسيا، إذ يتم استخدام الصراع مع أوكرانيا لحشد الرأي العام بهدف دعم الحكومة ومواجهة التهديدات الخارجية.
ويخشى بوتين أيضاً من احتمال تكرار السيناريو الأوكراني في روسيا إذا خرج المتظاهرون إلى الشوارع للمطالبة بتغييرات ديمقراطية بعد فوزه الأكيد في الانتخابات الرئاسية المقررة في الـ17 من مارس (آذار) المقبل.
معركة وجودية
لكن المشرع الألماني المحافظ نوربرت روتغن دعا بقوة إلى تقديم مزيد من المساعدة لأوكرانيا وتسليمها صواريخ “توروس”، إذ صوّر القضية الأكبر على أنها معركة وجودية.
وتساءل روتغن، “هل نحن مستعدون للدفاع عن أنفسنا وأمننا أم أننا أكثر ميلاً إلى الاستسلام؟، قائلاً لصحيفة “بوليتيكو” “ليست هناك طريقة للخجل”.
وأضاف أنه إذا تمكنت أوروبا من “التهرب من هذا التحدي”، فإن حرب بوتين “ستقترب منا أكثر من أي وقت مضى”.
في النهاية، لا بد من معرفة من سيتربع على عرش البيت الأبيض في واشنطن لنعرف ما سيجري في العالم بعد ذلك، وهذا اختصره مسؤول كبير بوزارة الخارجية الأميركية حين قال في نوفمبر الماضي إن بوتين لن يجنح إلى السلام مع أوكرانيا قبل أن يعرف نتائج الانتخابات الأميركية في نوفمبر 2024.