لم ينته العام الدراسي بعد، وتنهمك أروى الطويل (35 سنة) وغيرها من نساء مخيم شعفاط شرق القدس في البحث عن مدارس بديلة لمدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “أونروا” التي يدرس فيها 850 طالباً من أبناء المخيم، فالشكوك تراودهم هذه المرة مع تخوفات جدية، إذا ما كانت ستبقى مفتوحة حتى نهاية العام أم لا.
وفي أعقاب مزاعم إسرائيل بتورط 12 من موظفي “أونروا” في الهجوم الذي شنته حركة “حماس” في السابع من أكتوبر الماضي على مستوطنات إسرائيلية في محيط قطاع غزة، وتعليق 18 دولة والاتحاد الأوروبي تمويلها للوكالة، سارعت بلدية القدس وأعضاء في الكنيسيت التحرك لإجراء نقاش في الحكومة حول مستقبل مقار هذه المنظمة العاملة داخل حدود البلدية ومدارسها التي تدرس 1800 طالب المنهاج الفلسطيني في ستة مقار.
على إثر نكبة عام 1948 وما نشأ عنها من تحول غالبية الفلسطينيين إلى لاجئين، تأسست وكالة “أونروا”، بموجب القرار رقم “302” الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) عام 1949، بهدف تقديم برامج الإغاثة المباشرة والتشغيل للاجئي فلسطين.
وبدأت الوكالة عملياتها في الأول من مايو (أيار) عام 1950، وفي غياب حل لمسألة اللاجئين، عملت الجمعية العامة على تجديد ولاية “أونروا” وبشكل متكرر على مدى 75 عاماً، وتعتمد بشكل كلي على مساهمات دول أعضاء المنظمة الدولية، وقدرت موازنتها عام 2022 بنحو مليار و200 مليون دولار، وفي العام الماضي 1.6 مليار دولار، خصص معظمها للتعليم والرعاية الصحية، تليها خدمات أخرى مثل البنية التحتية وتحسين مخيمات اللاجئين. وقدمت الولايات المتحدة النسبة الكبرى بـ30 في المئة، تليها ألمانيا والاتحاد الأوروبي.
وتعد “أونروا” اليوم شريان حياة لملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين يتوزعون في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة، وفي دول الشتات بالأردن وسوريا ولبنان. وبحسب مفهومها السياسي وفق القانون الدولي، فهي ترمز إلى وجود فلسطينيين خارج أرضهم ويحق لهم العودة، وهو ما جعلها منذ سنوات موضع استهداف وتهم من إسرائيل، التي ترى أنها تسهم في إدامة قضية اللاجئين، بل وتضخيمها مع زيادة عدد اللاجئين المسجلين بها من 750 ألف شخص في عام 1948 إلى نحو 6 ملايين شخص حالياً، نظراً إلى منح أبناء وأحفاد اللاجئين صفة لاجئ.
قنبلة موقوتة
مراراً وتكراراً نفت “أونروا” المزاعم الإسرائيلية بأن مساعداتها تحول إلى “حماس”، وأنها تعلم الكراهية في مدارسها وتحرض على العنف، وشككت في دوافع أولئك الذين يطلقون مثل هذه الادعاءات، وعلى رغم إدانتها هجوم السابع من أكتوبر الماضي، ووصفته بأنه “بغيض”، ومن دون حتى انتظار نتائج التحقيق الذي أعلنته، أوصى نائب رئيس بلدية القدس أرييه كينغ بالعمل على إخلاء مقر الوكالة في حي الشيخ جراح بالمدينة، واستبداله بنصب تذكاري لتخليد ذكرى قتلى إسرائيل في الحرب الحالية، واصفاً موظفي أونروا بـ”المجرمين”.
وعبر كتاب رسمي عنوانه “قنبلة موقوتة في القدس”، طالب نائب رئيس البلدية وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بالمسارعة في تطبيق القانون على مقر إدارة الأمم المتحدة بالقدس، زاعماً أن الأرض التي بني عليها مقر “أونروا” ومساحتها 7 آلاف متر مربع أملاك دولة.
واعتبر الكتاب الرسمي وجود مقر هذه المنظمة في القدس “فشلاً أمنياً من الدرجة الأولى”. وأدعى كينغ في كتابه وجود بناء وإنشاءات في المقر مخالفة للقانون وأن هناك أسلحة وأنفاقاً أسفل المكان. وكتب متسائلاً “كيف يمكن لسكان معالوت دفنا ورامات أشكول والتلة الفرنسية أن يشعروا بالأمان عندما يشاهدون شاحنات ومركبات وعمال ’أونروا‘ يتجولون بحرية في أحيائهم في وقت يكشف فيه المتحدث باسم الجيش كل مساء تقريباً عن التعاون بين الوكالة و’حماس‘”؟
تزامنت اتهامات كينغ مع تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلية يسرائيل كاتس التي أكد فيها أن الوكالة الأممية تشكل “جزءاً من البنية التحتية الإرهابية”. وأضاف كاتس في منشور على موقع “إكس”، “وكالة أونروا هي جزء من الكذبة الفلسطينية بأن هناك لاجئين يحتاجون إلى العودة لدولة إسرائيل”. وتابع، “إننا نعمل على طرد وكالة أونروا فهي المشكلة وليست الحل”.
بدوره هاجم رئيس لجنة الشؤون الخارجية والأمن بالكنيست يولي إدلشتاين المنظمة الأممية. وقال في تغريدة على منصة “إكس”، “أونروا هي ’حماس‘، و’حماس‘ هي أونروا”، في حين وثق مقطع فيديو نشرته مسؤولة سابقة في مركز الأبحاث السياسية التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية، نوغا أربيل على صفحتها بالمنصة أول من أمس السبت، تطالب فيه بتدمير المنظمة الأممية.
وجاء في المقطع، “’أونروا‘ تلقن الفلسطينيين الاعتقاد أن الإبادة الجماعية لليهود وتدمير إسرائيل هي الطريق الوحيد كي يعودوا لبلادهم ويعيشوا. لقد كانت الأونروا بمثابة البذرة التربوية للشر الذي ارتكب ضدنا، ولهذا السبب يجب على الأونروا أن ترحل”. وتابعت “أونروا تخلق الإرهابيين وتدعم الإرهاب، وأصبحت مصدراً لكثير من أعمال العنف في إسرائيل، ولهذا السبب يجب أن تتوقف عن الوجود”.
تحريض متصاعد
كيل الاتهامات الإسرائيلية على “أونروا”، جاء في وقت تعمل فيه بلدية القدس على بناء مجمع مدارس بكلفة 7.1 مليون شيكل (2 مليون دولار) في منطقة مخيم شعفاط وقرية عناتا شرق المدينة ليكون بديلاً عن المدارس الست التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وإلى جانب ذلك أجرت اللجنة الفرعية للجنة التربية والثقافة والرياضة في الكنيست أخيراً، مشاورات مطولة لفحص إمكان إغلاق المدارس الفلسطينية بالقدس بزعم “التحريض على الإرهاب” في زمن الحرب، ومدى تأثيرات المناهج والبرامج الدراسية في مدارس القدس الشرقية، واتساع ما اعتبرته ظاهرة “التحريض بين القاصرين”.
ويرى رئيس اللجنة أميت هاليفي، أن “الوقت حان لكي تتعامل دولة إسرائيل مع هذه البنية التحتية التعليمية، التي تحتوي على التحريض على الإرهاب”. وأضاف في حديثه أمام اللجنة “البندقية لا تطلق النار وحدها، إنها تطلق النار من الرأس، ومن القلب”.
وبالاعتماد على حالة الطوارئ المعلنة، أقدمت الشرطة الإسرائيلية نهاية العام الماضي، على إغلاق مدرسة ورياض أطفال في البلدة القديمة بالقدس، بذريعة اعتمادهما على منهاج التدريس الفلسطينية التي “تحرض على الإرهاب”، وهددت بإغلاق ثلاث أخرى توجد داخل باحات المسجد الأقصى، وزعم مندوب الشرطة الإسرائيلية سامي مارسيانو، خلال مداولات اللجنة التي تشرف على برامج التعليم في جهاز التعليم شرق القدس، ضلوع طلبة تلك المدارس في التحريض والاحتجاجات وتنفيذ هجمات ضد الشرطة والمستوطنين في المدينة، قائلاً “نحن نواجه مثيري شغب لا تتجاوز أعمارهم الثامنة من العمر”.
وعلى رغم من أن وزارة المعارف الإسرائيلية تجبر جميع المدارس شرق القدس على اعتماد كتب المنهاج الفلسطيني المعدلة والخالية أي مضامين تعتبر أنها “تحرض على الإرهاب”، تعمدت الشرطة الإسرائيلية منذ مطلع العام الدراسي الحالي اقتحام المدارس للتحقق من عدم تدريسها المنهاج الفلسطيني وتفتيش حقائب الطلاب ومصادرة المنهاج الذي تطبعه وزارة التربية والتعليم الفلسطينية.
وتمكنت السلطات الإسرائيلية العام الماضي من سحب الترخيص الدائم من الكلية الإبراهيمية وست مدارس تابعة لشبكة مدارس “الإيمان” بذريعة “التحريض على الإرهاب” بالكتب الدراسية. ويدرس نحو 20 ألف طالب يعيشون شرق القدس في مدارس تابعة للسلطة الفلسطينية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين “أونروا”، في مقابل نحو 70 ألف طالب يدرسون في مدارس تتبع بلدية القدس ووزارة المعارف الإسرائيلية.
مواجهة خطرة
في المقابل ترى المدير العام لوحدة القدس في وزارة التربية والتعليم ديما السمان، أن الممارسات الإسرائيلية للسيطرة على طلاب المدارس وتحويلهم إلى المناهج الإسرائيلية، وإغلاق مدارس الوكالة “يضع آلاف الطلبة المقدسيين في مواجهه خطرة بما يتعلق بمستقبلهم التعليمي”.
أضافت “هذه السياسات التهويدية تصر على محو الهوية الفلسطينية والمقدسية، وإضعاف قدرة المدارس في القدس وعرقلة تطويرها”، وأكدت السمان في حديثها أن الجهات الرسمية ستتوجه إلى “اليونيسكو” والمؤسسات الأممية ذات العلاقة “من أجل التصدي لهذه الانتهاكات”.
بدوره يرى مدير مركز “بديل” الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين”، نضال العزة أن تلفيق تهمة الإرهاب “بالأونروا” ودمغها بالتحريض على العنف، يعتبر من أنجح الحملات بالنسبة إلى إسرائيل وأكثرها تأثيراً في الغرب.
أضاف “في ظل الحرب الدائمة على قطاع غزة فإن (أونروا) هي الوكالة الدولية الوحيدة المؤهلة لاستقبال وتوزيع المساعدات الدولية، واستهدافها يعني قطع شريان الحياة عن ملايين اللاجئين”.
ومضى في حديثه “هذا الإجراء هو بمثابة رد على قرار المحكمة الدولية”، وهو ما أكد عليه رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتيه الأسبوع الماضي، حين قال إن “تجميد مساعدات الوكالة تعطيل لقرار المحكمة الدولية الرامي إلى زيادة إدخال المساعدات الإغاثية إلى غزة، وسيكون له آثار مدمرة في نفوس المحتاجين من أهلنا هناك”.
أكثر صعوبة
على رغم الإجماع الإسرائيلي على ضرورة إنهاء عمل المنظمة الأممية، يرى مختصون إسرائيليون أن الاتهامات الأخيرة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين “أونروا” قد تؤدي إلى جعل موقفهم أكثر صعوبة.
ووفقاً للقناة “12”الإسرائيلية، فإن ضباطاً كباراً في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بعثوا برسالة إلى رئيس أركان الجيش، جاء فيها أن التسريبات الإسرائيلية التي دفعت دولاً عدة إلى وقف تمويلها لأونروا، “جرت بصورة غير منظمة وغير مدروسة، الأمر الذي قد يكون له تبعات سلبية”.
وحملت الرسالة أنه “على المدى القصير، نوصي بعدم تصعيد عملية تشويه (أونروا) قبل المناقشة المتوقعة في الكونغرس الأميركي، وكذلك حتى إجراء مناقشات لتحديد السياسات في شأن هذه القضية من المستوى السياسي الإسرائيلي، ومناقشة البدائل التي يمكن أن تقوم بدور الوكالة”، معتبرين “هذه الحملة الإسرائيلية بمثابة كرة ثلج”.
ولفتت الرسالة إلى أن “سياسة الجيش في هذا الشأن لم تتحدد بعد، وأن على المستوى السياسي أن يقرر ما إذا كان سيضغط أكثر لوضع حد للمنظمة بعد 75 عاماً من نشاطها”. وأشارت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، إلى أن انهيار تقديم خدمات “أونروا” “قد يجبر إسرائيل على تحمل دور أكبر في إدارة توزيع المساعدات، وهو الدور الذي لا تريده”.
وذكرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية اليوم الإثنين، أن المنظمات التي تطرحها تل أبيب لتحل مكان “أونروا” هي برنامج الأغذية العالمي والوكالة الأميركية للتنمية الدولية”USAID” التي كانت تعمل في القطاع بشكل مقلص مع ضرورة توسيع نشاطها في حال وافقت الولايات المتحدة على ذلك.
أخيراً أكدت الصحيفة أن إسرائيل تنوي إدخال هيئات مدنية دولية أخرى في مجالي التعليم والصحة إلى غزة، أو أن تقيم هيئات تشكلها دول وتمنح رعاية إنسانية.