لبنان يتغير، ولا يصدق أن الدنيا تغيرت فيه ومن حوله. يحاول الحفاظ على “الستاتيكو” من دون أن يتصور أن “الستاتيكو” مرحلي ومرشح للتغيير على الطريق إلى الانهيار الكامل الذي لم تدق ساعته بعد. وليس من السهل على الخائفين على لبنان الذي عرفوه التسليم بأنه انتقل من حقبة إلى حقبة إلى أخرى خلال عقود بعد الاستقلال عام 1943. من حقبة الجبل إلى حقبة بيروت، فإلى حقبة البقاع والجنوب حيث الضاحية هي المختصر. وكل حقبة سادها نوع من الحكم، بصرف النظر عن تشكيلة المناصب في السلطة، من الأرجحية المارونية إلى الأرجحية السنية وصولاً إلى الأرجحية الشيعية. خلال الانتداب الفرنسي كانت المناصب شكلية والسلطة الفعلية في يد المفوض السامي. وخلال الوصاية السورية جرى الحفاظ على الشكل في المناصب مع تبديل ما في الصلاحيات، ولكن القرار كان في دمشق مباشرة أو من خلال عنجر (البقاع) حيث مقر الاستخبارات العسكرية السورية. وخلال هيمنة الفصائل الفلسطينية المسلحة تفاخر ياسر عرفات بأنه يحكم لبنان.
حقبة الجبل كانت الأطول عمراً: من الاستقلال إلى “اتفاق الطائف”. وهي شهدت حربين: ميني حرب، عام 1958، دامت بضعة أشهر وانتهت بشعار لا غالب ولا مغلوب. وحرب لبنان الطويلة التي بدأت، عام 1975، ودامت 15 عاماً، وتدخلت فيها قوى إقليمية ودولية إلى جانب قوى محلية، وانتهت بغالب ومغلوب، ولكن من دون طبل وزمر. ومع الحربين كان الدخول العسكري السوري، وقوات الردع العربية، والاجتياح الإسرائيلي، وقوات الطوارئ الدولية في الجنوب بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 425، والقوات المتعددة الجنسيات.
في هذه الحقبة كان السياسيون من الجبل يحكمون “لبنان الكبير”. رئيس الجمهورية الماروني “ملك على جمهورية” كما وصفه رئيس الحكومة الأسبق سليم الحص. السلطة تناط به دستورياً. وفي يد الموارنة كل المناصب التي تمثل القرارات المالية والعسكرية والأمنية والقضائية والتربوية. رئيس الحكومة السني كان يشكو من أنه مجرد “باشكاتب”. رئيس المجلس النيابي الشيعي الذي يتم انتخابه، سنة بعد سنة، كان على العموم حليفاً لرئيس الجمهورية. الزعيم الدرزي كان يتولى وزارة الدفاع مثل الأمير مجيد أرسلان، أو وزارة الداخلية مثل كمال جنبلاط، وذلك قبل بدعة الوزارات السيادية الأربع التي جرى تصنيفها بعد “الطائف” واقتصار من يقولونها على أربعة مذاهب فقط: ماروني وأرثوذوكسي وشيعي وسني، بقية المذاهب “درجة ثانية”.
حقبة بيروت جاءت بعد “الطائف” الذي نص على أن السلطة الإجرائية “تناط بمجلس الوزراء” بدل رئيس الجمهورية. وبصرف النظر عن دور الوصي السوري، فإن رئيس الوزراء هو الذي أمسك عملياً بالسلطة، وخصوصاً عندما كان رئيس الحكومة رفيق الحريري صاحب النفوذ العربي والدولي في منصب رئيس الوزراء. رئيس الجمهورية الذي جرده “الطائف” من بعض الصلاحيات وأعطاه صلاحيات مهمة بينها رد القوانين والقرارات، ولا تأليف حكومة إلا بموافقته وتوقيعه، ظل يردد أنه بلا صلاحيات تمكنه من الحفاظ على التوازن في السلطة. أما رئيس المجلس الشيعي الذي صار يتم انتخابه، لأربع سنوات، هي مدة الولاية الانتخابية للنواب، فإنه صار صاحب نفوذ مهم وعضواً فاعلاً في “الترويكا” الحاكمة المؤلفة من رؤساء الجمهورية والبرلمان والحكومة. وفي هذه الحقبة بدأ الإعمار والنهوض الاقتصادي، لكن سياسات الاقتراض للاستهلاك وتجاهل العناية بالصناعة والزراعة و”مزاوجة التكنولوجيا والتعليم الجامعي”، وسط الفساد التاريخي في كل العهود، قادت إلى أزمات مالية واقتصادية واجتماعية عميقة وديون فلكية.
حقبة البقاع والجنوب، ومن ثم الضاحية، بدأت عملياً بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب تحت ضربات “المقاومة الإسلامية” حين أصرت دمشق وطهران على إبقاء “حزب الله” مسلحاً، وتكرست، عام 2005 بعد الانسحاب العسكري السوري وتعاظم الوصاية الإيرانية. حامل السلاح احتاج أولاً إلى غطاء شرعي رسمي وأصر على تضمين البيانات الوزارية ثلاثية “جيش وشعب ومقاومة”، ثم على الإمساك بمفاصل السلطة ليبقى مطمئناً إلى حماية سلاحه ودوره الداخلي والإقليمي. لا بل صار يعطل انتخاب رئيس للجمهورية، إن لم يكن من حلفائه الموثوقين. وفي هذه الحقبة وصلت الأزمات إلى هاوية عميقة. وجرى توريط لبنان في حرب لمساندة “حماس” في حرب غزة. وليس إصرار “حزب الله” على ربط كل شيء في لبنان بنهاية حرب غزة سوى جزء من المعادلة. الجزء الآخر هو الرهان على نهاية مختلفة لحرب غزة تحقق فيها “حماس” نوعاً من النصر يمثل “هزيمة استراتيجية للعدو الإسرائيلي”، بحيث يكون كل ذلك محطة على طريق المشروع الإقليمي الإيراني الذي “حزب الله” ركن من أركانه.
لكن اللعبة في لبنان متحركة دائماً، وهيمنة طائفة على بقية الطوائف موقتة وتقود دائماً إلى مشكلة مع كل الطوائف. وفائض القوة عند “حزب الله” في لبنان هو بالمقياس الإقليمي والدولي قوة محدودة، وبالمقياس الداخلي اللبناني قوة تخلق قوة مضادة لها. وإذا كان النظام الطائفي في لبنان مشكلة، فإن الدولة الدينية كارثة، ولا مستقبل للبلد إلا بدولة مدنية وطنية.