على مدى 40 عاما، احتمت إيران وراء المليشيات التي صنعتها أو انضمت لها فيما يسمى بـ”محور المقاومة”، وابتعدت عن الدخول في حرب مباشرة مع إسرائيل ودول المنطقة، بعد حربها مع العراق، إلا أن أحداث أبريل 2024 جرَّتها لتنزل إلى الميدان بنفسها، وهو تطور قد يفقدها ورقة القوة الوحيدة التي تمتلكها.
وفي هجومها غير المسبوق، أطلقت إيران ما يقرب من 350 طائرة بدون طيار وصاروخًا هجوميًا ضد إسرائيل في 13 أبريل، ردًا على غارة جوية مطلع أبريل على مجمع سفارتها في سوريا أسفرت عن مقتل جنرال إيراني كبير وآخرين.
الوكلاء.. درع إيراني
بعد اندلاع ثورة إيران بقيادة آية الله الخميني عام 1979، اتجهت طهران لصناعة جماعات مسلحة داخل الدول التي تريد السيطرة عليها، أو ضم جماعات موجودة بالفعل إلى دائرتها؛ ليُديروا دفة الأمور بداخلها وفق المصالح الإيرانية، كما استغلت هذه الجماعات في شن معارك ضد خصومها، دون الحاجة لأن تحارب بجيشها مباشرة.
وأبرز هذه الجماعات:
حركة الجهاد الإسلامي تأسست في فلسطين عام 1981.
حزب الله تأسس في لبنان 1982.
حماس تأسست في فلسطين 1987.
حركة الحوثي تأسست في اليمن 1992.
مليشيات متعددة في العراق، بعض جذورها ترجع لمنظمات شاركت مع إيران ضد العراق في حرب الخليج الأولى في ثمانينيات القرن العشرين، وبعضها تأسس بعد سقوط نظام حكم الرئيس العراقي صدام حسين عام 2003، أو بعد غزو داعش للعراق 2014، وأبرزها “الحشد الشعبي”.
المليشيات في سوريا، تأسست بعد اندلاع الحرب السورية عام 2011، ومنها “فاطميون” و”زينبيون”.
استُخدِمت هذه الجماعات في معارك ومناوشات ضد إسرائيل، والسعودية، والعراق، وللسيطرة الداخلية وإضعاف الجيوش الوطنية مثلما حصل على يد حزب الله في لبنان.
ومؤخرا، استغلت طهران معظم هذه الجماعات في توجيه هجمات نحو أهداف إسرائيلية للضغط على القوى الدولية، بدعوى أن هذه الهجمات هدفها نُصرة قطاع غزة في الحرب الإسرائيلية الدائرة عليه.
لكن تشير التطورات إلى عدم كفاية استخدام هذه المليشيات في حفظ هيبة إيران أو الانتقام لها بعد توالي مقتل كبار قادتها العسكريين، بداية من قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري بغارة أميركية عام 2020، مرورا برضا موسوي في ديسمبر 2023، ومحمد رضا زاهدي أبريل 2024، بغارات منسوبة لإسرائيل في سوريا؛ ما اضطر طهران للنزول إلى الميدان بنفسها لمواجهة تل أبيب، لأول مرة.
الاضطرار للخروج من الظل
في تقدير الباحث المتخصص في شؤون الأمن القومي الإيراني، فراس إلياس، فإن الهجوم الذي شنته إيران على إسرائيل بالصواريخ والطائرات المسيرة، 13 أبريل، هو “تغير نوعي في التفكير العسكري لصانع القرار الإيراني”، معتبرا أن
إسرائيل نجحت في جر إيران للنزول إلى الميدان والرد بنفسها على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، حيث تعد أرضا سيادية للدولة صاحبة القنصلية وفق القانون الدولي.
وفي هذا السياق، وجدت طهران نفسها مجبرة على الرد المباشر لأنها تعرضت لهجوم على “أرضها”، وأن أي رد عبر الوكلاء لن يكون على مستوى الحدث وسيبعث برسالة “ضعف” إلى إسرائيل.
ويشير إلياس إلى أن طهران ستجد نفسها “مجبرة على الرد مجددا على أي هجوم يستهدفها”.
كما نجحت إسرائيل أيضا في تهديد المفاوضات بين إيران والقوى الغربية بشأن الاتفاق النووي والعقوبات، بتقديم النظام الإيراني على أنه “لا يمكن التفاوض مع نظام يهدد المنطقة”.
والأربعاء، استعرضت إيران عددا من مختلف الأسلحة في عرض عسكري سنوي أقامته بمناسبة يوم الجيش، بحضور الرئيس إبراهيم رئيسي، منها صواريخ باليستية متوسطة وطويلة المدى، وطائرات مسيرة، وأنظمة دفاع جوي، في إشارة لاستعدادها للتصدي لأي هجوم إسرائيلي.
لكن إيران تدخل ساحة المواجهة المباشرة بعد انكفاء مدته 40 عاما لم تجرب فيه دفاعاتها وجبهتها الداخلية في حرب مع طرف خارجي، وهو ما يمكن النظر إليه على أنه اختبار لقوتها الذاتية الحقيقية.
سقوط ورقة الوكلاء؟
يعتبر الباحث السياسي الفلسطيني، زيد الأيوبي، أن إيران “خسرت ورقة حرب الوكالة” بعد سنوات من الاعتماد على أذرعها في المنطقة بعد اضطرارها إلى شن هجوم بنفسها على إسرائيل، وهو ما كشف ضعف الوكلاء وعدم قدرتهم على الرد.
كما تنصلت إيران من الهجوم الذي شنّته حركة حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023؛ حيث خشيت من تداعياته على مصالحها.
وتسعى إيران لأن يبقى نشاط وكلائها في الحدود التي ترسمها هي لهم؛ وهذا ما يظهر في التزام جماعات في العراق بالتهدئة بعد مقتل جنود أميركيين في هجوم على قاعدة عسكرية أميركية في الأردن، وكذلك حزب الله الذي لم يتخطَّ دوره في حرب غزة ما طلبته منه إيران (رغم كثرة عدد قتلاه في هجمات إسرائيلية).
لكن ما سبب ذلك؟
يرى الأيوبي أن من أسباب خسارة ورقة حرب الوكالة هي كثرة الضربات المنسوبة لإسرائيل التي أسقطت خسائر كبيرة في صفوف القادة الإيرانيين في سوريا، والاستنزاف الطويل لشحنات الأسلحة الإيرانية.
في المقابل، يعتبر رامي عبدالرحمن، مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان (معارض مقره لندن)، أن إيران نجحت في تعزيز وجودها في سوريا عبر وكلائها، رغم الضربات الإسرائيلية لهم.
كذلك يرى أن الهجوم الإيراني على إسرائيل “عزز من قوة إيران وسط وكلائها وجمهورها في سوريا واليمن والعراق ولبنان وغزة، بتقديمها قادرة على حمايتهم، وعلى الرد، والوصول لإسرائيل، وتهديد دول الإقليم، وأنها ليست نمرا من ورق”.
الانكشاف المخابراتي لإيران
نقطة ضعف أخرى يرصدها الباحث المتخصص في شؤون الأمن القومي الإيراني، فراس إلياس، وفق رأيه، في أداء إيران، وهي أن استهداف قنصليتها، وقبله استهداف مواقع نووية واغتيال علماء نووين وجنرالات في الحرس الثوري، يشير إلى “عجز النظام الإيراني عن تأمين المؤسسات الاستخبارية والأمنية”.
ولتدارك هذا الأمر، يقول إلياس إن المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني بدأ الأيام الماضية إجراء مراجعات أمنية، وتقييم الأجهزة الاستخباراتية لخلق نوع من الضبط، ومنع مزيد من الاختراقات.
ويضيف متخصصون في الملف الإيراني لما سبق، أن ضمن ما يمكن أن يكبل إيران عن مواجهة إسرائيل بشكل يحفظ هيبتها هو التقدم الذي وصلت له إسرائيل في التسيلح وشن ضربات جوية دقيقة، كما ظهر في استهدافها لشخصيات فلسطينية ولبنانية محسوبة على إيران في لبنان، وكذلك ما يُنسب لها من هجمات دقيقة لأهداف إيرانية في سوريا.
ويزداد التفاف حلفاء إسرائيل حولها، لدعمها أمام إيران، والأربعاء قالت مجموعة الـ7 الصناعية: “سنضمن التنسيق لأي إجراء مستقبلي للحد من قدرة إيران على الحصول على الأسلحة أو إنتاجها أو نقلها”.
تحديات داخلية
يرصد الباحث فراس إلياس كذلك تحديات أمنية أخرى تواجه طهران، وهي في أوج صدامها مع إسرائيل، ويعتقد أن الانقسامات الداخلية تفرض نفسها مع اقتراب انتخابات الرئاسة هذا العام، في ظل صراع بين أجنحة النظام الحاكم حول ملفات داخلية وخارجية.
ويضاف إلى ذلك غموض مرحلة ما بعد المرشد علي خامنئي (يبلغ عمره 85 عاما)، وهل ستبقى إيران بنفس الشاكلة الموجودة عليها اليوم، أم سيسبب غيابه مزيدا من التحركات على مستوى الأعراق والأقليات.