في مثل هذا الوقت من العام، تنهمك يسرى الفارس (45 سنة) في تحضير مشغولاتها اليدوية من الشمع والأقمشة المطرزة والأكسسوارات من خشب الزيتون، وتهيئ نفسها لعرض تلك المنتجات بطرق إبداعية وأكثر حداثة عن ذي قبل لجذب المشترين، فأسواق عيد الميلاد التي تزين كل عام عدداً من مدن الضفة الغربية وتعج بالزوار والسياح والمتسوقين لأسابيع، تشكل لها ولعدد كبير من النساء الفلسطينيات من ذوات الدخل المحدود فرصة ثمينة لتسويق منتجاتهن المختلفة وإعالة أسرهن في مواجهة أعباء الحياة الصعبة.
إلا أن استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وقرار مجلس الكنائس في الأراضي الفلسطينية إلغاء كل مظاهر الاحتفالات والبهجة المرتبطة بعيد الميلاد في الضفة الغربية والقدس، هدما كل أحلام الفارس التي شيدتها على مدى عام كامل، فالزينة والأنوار التي احتفظت بها لتزيين طاولتها في أسواق عيد الميلاد انطفأت كما شجرة الميلاد في ساحة كنيسة المهد بمدينة بيت لحم التي تعد واحدة من أهم أشجار الميلاد في العالم.
عيد حزين
مع أعياد مختصرة جداً من دون ضجة ومن دون كثير من الأضواء والأسواق، تواجه معظم المشاريع النسائية الصغيرة القائمة في فلسطين تحدياً كبيراً يهدد استمرارها، وإلى جانب تعطل أعمالهن منذ نحو شهرين، تعيش الضفة الغربية حال تدهور اقتصادي غير مسبوق جراء التشديدات الإسرائيلية على حركة المواطنين اليومية بين المدن والقرى الفلسطينية، مما شكل كارثة اقتصادية لكثير من النساء صاحبات المشاريع الصغيرة اللاتي يجدن في موسم الأعياد مناسبة خصبة لتحسين ظروفهن، خصوصاً أنهن طورن مشاريعهن عن طريق القروض، وتوقف الإنتاج بالنسبة إليهن خلق أزمات حادة لهن ولأسرهن.
تقول فارس، “إلى جانب القلق والخوف اللذين نعيشهما من مستقبل بات مجهولاً، تبقى المرأة الفلسطينية الأكثر تأثراً بالظروف السلبية، والأسر التي تعيلها هي الأكثر فقراً في المجتمع الفلسطيني.”
وتتولى النساء مسؤولية 11 في المئة من الأسر الفلسطينية بواقع 12 في المئة داخل الضفة الغربية وتسعة في المئة بقطاع غزة. ووفقاً لوزارة الاقتصاد الفلسطينية، أغلقت 29 في المئة من المنشآت الاقتصادية في الضفة الغربية بصورة كاملة أو جزئية، مع التوقف شبه الكامل للمنشآت في القطاع بسبب الحرب.
وتعرض 90 مشروعاً متناهي الصغر وصغيراً جداً تقوده النساء منذ بدء الحرب لسلسلة من الإجراءات والتعقيدات، حالت دون تسويق منتجاتهن أو عرضها بالصورة المطلوبة، بسبب اقتحامات الجيش الإسرائيلي المتكررة للمدن والقرى والمخيمات، وإغلاق المحال التجارية في كثير من المناطق، ومحدودية الطلب على منتجاتهن في ظل التراجع الحاد في السيولة، إذ إن التركيز الشرائي للمواطنين أصبح على السلع الأساسية فقط.
ويتركز عمل المشاريع الصغيرة في الضفة الغربية على إنتاج الأكسسوارات والمطرزات الفلسطينية، وجزء كبير يستثمر براعته في صنع المأكولات البيتية، وأشارت سيدات يعملن في هذا المجال إلى أن الطلب على منتجاتهن أصبح شبه معدوم مع إلغاء المناسبات والأفراح وأعياد الميلاد.
وتقول إحداهن، “كل المشاريع الريادية النسوية تأثرت بصورة كبيرة بفعل الحرب والإغلاقات، والمشاريع التي تعتمد على الكماليات والهدايا مثل منتجات التطريز وغيرها توقفت كلّياً نتيجة اهتمام الناس بالمواد الأساسية والغذائية فقط”.
بينما توضح أخرى أنها اضطرت إلى إنهاء خدمات عدد من النسوة العاملات لديها لعدم مقدرتها دفع أجورهن في ظل الظروف الحالية.
وتقدر رئيسة جمعية المرأة الريفية في فلسطين حنين زيدان بأن نحو 30 في المئة من المشاريع الصغيرة في الضفة الغربية بدأت تغلق أبوابها، وتشرح أن سوء الأوضاع الاقتصادية وانقطاع الرواتب الحكومية ومنع العمال من العمل داخل إسرائيل، رفعت معدلات العنف ضد المرأة كونها الحلقة الأضعف في المجتمع الفلسطيني، بحسب تعبيرها.
فقر وبطالة
في سياق متصل، أزاحت دراسة لوزارة الاقتصاد الفلسطينية الستار عن أن أبرز الصعوبات التي تواجه المرأة الريادية الفلسطينية اليوم تتركز على صعوبة التنقل بين المحافظات وجلب المواد الخام لمشاريعهن وتوصيل منتجاتهن خارج أماكن سكنهن بسبب الإغلاقات الإسرائيلية والحواجز وتقييد حرية التنقل على الطرق.
كما تأثرت مشاريع عدد من النساء اللاتي يعشن في مناطق حساسة وقريبة من المستوطنات، أو تلك التي تتعرض لاقتحامات متكررة بنسب كبيرة، إذ قلن إن حال القلق والخوف من اعتداءات المستوطنين على منازلهن وأسرهن شتت أفكارهن وحالت دون استكمال مشاريعهن.
ووفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، تحسنت نسبة مشاركة النساء في القوى العاملة من 10 في المئة عام 2000، إلى 19 في المئة عام 2022، بمعدل زيادة وصل إلى 94 في المئة، إلا أن هذا التحسن خلال العقدين الأخيرين بحسب متخصصين، يفقد أهميته بتصاعد معدل البطالة في صفوفهن، فخلال الفترة نفسها ارتفع معدل البطالة بين النساء المشاركات في القوى العاملة من 13.8 في المئة عام 2000 إلى 40 في المئة عام 2022 بزيادة بلغت 178 في المئة.
وتعتبر نسبة مشاركة المرأة الفلسطينية في القوى العاملة في الأراضي الفلسطينية من أدنى النسب في العالم، وبيّن الجهاز أن 61 في المئة من النساء الفلسطينيات اللاتي يحملن الشهادات الجامعية (دبلوم فأعلى) عاطلات من العمل، على رغم أن المرأة الفلسطينية تتمتع بمعدلات تعليمية عالية، فسجلت الفلسطينيات بحلول عام 2022 معدلات أعلى في الالتحاق بالمدارس ومعدلات أقل في التسرب منها مقارنة بالبنين.
وبحسب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة ”يونيسكو” فإن الفتيات الفلسطينيات يلتحقن بالمدارس الابتدائية والثانوية بمعدلات تفوق معدلات البنين المسجلة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قاطبة.
شلل سياحي
وطأة الحرب في أسبوعها التاسع وما رافقها من تدهور اقتصادي غير مسبوق في الضفة الغربية، لم يقتصر على المشاريع النسوية الصغيرة فحسب، بل تسبب بانهيار الموسم السياحي في فلسطين.
وأصبحت القدس وبيت لحم التي يعتمد سكانها على السياحة الدينية المسيحية والإسلامية بنسب كبيرة خالية تماماً من السياح والزوار، كما أن الفنادق والمتاجر التي نجت من جائحة كورونا وبدأت بالتعافي، انهارت أمام التدهور الأمني والسياسي الحاصل، إذ ألغى آلاف السياح الأجانب والعرب حجوزاتهم في معظم الفنادق التي كانت غرفها حتى السادس من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تشهد حالاً من الإشغال للأشهر الثلاثة التالية.
وشهد عدد نزلاء الفنادق خلال النصف الأول من العام الحالي ارتفاعاً يزيد على الضعفين مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، وبلغ في الضفة الغربية 380 ألف نزيل أقاموا نحو مليون ليلة مبيت.
وكانت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية توقعت في سبتمبر (أيلول) الماضي بأن عام 2023 سيكون منافساً لعام 2019 من حيث أعداد السياح والإقامة في الفنادق الفلسطينية، وأن يتجاوز العدد حاجز الـ3 ملايين سائح وليالي المبيت أكثر من 2.5 مليون ليلة فندقية وأن يبلغ مجموع الاستثمارات الجديدة للأعوام الثلاثة المقبلة أكثر من 100 مليون دولار.
خسائر فادحة
في أرقام مغايرة تماماً عن تلك التوقعات، أشار المرصد الاقتصادي التابع لوزارة الاقتصاد الفلسطينية إلى أن القطاع السياحي في مدينة بيت لحم، حيث يعمل 80 في المئة من سكان المدينة في القطاع السياحي بصورة مباشرة وغير مباشرة، تضرر بنسبة 100 في المئة، مما أدى إلى إغلاق المطاعم وتعطل الفنادق السياحية.
وأوضح المرصد أن القطاع التجاري الخدماتي تضرر بنسبة 60 في المئة وأن الإيرادات في كل القطاعات انخفضت 70 في المئة، وسجلت حركة الاستيراد تراجعاً بنسبة 50 في المئة وكذلك حركة التصدير بنسبة 62 في المئة.
ووفقاً لجمعية الفنادق العربية في فلسطين، فإن 70 فندقاً و100 متجر لبيع التحف الشرقية و400 مشغل لخشب الزيتون ومئات الأدلاء السياحيين في محافظة بيت لحم أصبحوا بلا عمل جراء الحرب.
بدوره، قال الرئيس السابق لجمعية السياحة الوافدة في الأراضي المقدسة طوني خشرم إن 24 مكتباً للسياحة الوافدة و21 فندقاً و12 بيت ضيافة و298 دليلاً ومرشداً سياحياً و260 حافلة سياحية و324 متجراً للهدايا التي تعتبر مجتمعة عصب الاقتصاد لمدينة القدس، متوقفة عن العمل أو مغلقة أو شارفت على الإفلاس.
من جهتها، أوضحت جمعية الحرفيين العادلة في بيت لحم التي تجمع 42 حرفياً ضمن مشاغل عائلية في التطريز والحفر على خشب الزيتون وفن السيراميك ومعامل الخزف والزجاج وحياكة السلال وتصميم المجوهرات الشرقية، أن انهيار القطاع السياحي هذا العام يهدد بإغلاق تلك المشاغل ويترك عشرات الأسر لخطر الفقر المدقع ويعرض الحرف التقليدية الفلسطينية لخطر الاندثار.
وقالت مديرة الجمعية سوزان ساحوري إن “الحرب سددت ضربة قاصمة لعشرات الحرفين الصغار والنساء والمشاغل العائلية، فهم يعتمدون على بيع منتجاتهم للمحال التجارية الكبيرة أو عبر عرضها على الإنترنت وتصديرها للخارج”.