بينما تترقب عيون العالم وقنواته الإخبارية إتمام سير الهدنة الإنسانية في قطاع غزة، بعد حرب ضروس استمرت 49 يوماً أكلت الأخضر واليابس، ينهمك المستوطنون وسط كل تلك الأحداث بالإسراع في إحكام السيطرة على ما بقي من عيون المياه والينابيع في الضفة الغربية، وبخاصة القريبة من المستوطنات.
لم يكتف مستوطنو “راحيل” و”شيلو” و”عيلي” القريبة من قرية قريوت شمال الضفة الغربية بقطع وتدمير الخط الرئيس الذي يزود القرية بالمياه من شركة “ميكروت” الإسرائيلية، بل منعوا أهل القرية من تعبئة المياه من ينابيع في قريتهم، فبعد أن أجهز المستوطنون على “عين قريوت” و”عين سيلون” وسدوا الطريق إليهما بسواتر ترابية، لم يتبقَ لأهل القرية الشهيرة بكثرة ينابيعها، سوى شراء المياه بثمن باهظ لسد حاجتهم من مياه الشرب وري زرعهم الذي يهدده التلف.
إضافة لكل ما سبق، عمد المستوطنون إلى تدمير كل التوصيلات التي تزود أراضي الفلسطينيين المحيطة بمياه الينابيع، الأمر الذي يهدد عشرات العائلات بفقدان مصدر رزقهم الوحيد من تلك الأراضي.
وفقاً لجمعية الهيدرولوجيين الفلسطينيين، فإن “عدد ينابيع المياه الموسمية وغير الموسمية في الأراضي الفلسطينية، 714 ينبوعاً، تستخدم منها نحو 350 فقط، ويحكم المستوطنون سيطرتهم على عدد كبير منها، ويمنع أصحابها الفلسطينيون من الوصول إليها”.
وتوضح الجمعية، أنه “يوجد 314 بئراً جوفية، يعمل منها 212 بئراً فقط، والبقية معطلة لأسباب فنية، إذ تسيطر إسرائيل بشكل تام عليها”.
عين سيلون
خلال عقدين، صادرت إسرائيل ثلاث عيون مياه من أصل خمس تملكها قريوت، ومنعت سكانها البالغ عددهم 3 آلاف نسمة من الوصول أو الاقتراب منها، بعد أن ضمتها لمنطقة نفوذ المستوطنات، التي سيطرت على 17 مليون متر مربع من أراضي القرية، وتسلط المستوطنون على آخر ينبوعي مياه، يعني حرمان المزارعين كلياً من المياه التي تغذي أراضيهم المحيطة والتي تقدر مساحتها بـ700 ألف متر مربع، وتمهد لمصادرتها بذرائع أمنية.
منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لم يبارح المستوطنون منطقة “عين سيلون”، حيث أجروا تعديلات جوهرية في المنطقة الموجودة فيها، بوضع مظلات ومقاعد وألعاب أطفال، وإضفاء صفة سياحية عليها وتناوبوا في حراسة المكان، لمنع الفلسطينيين من الاقتراب تحت تهديد السلاح.
ولا يسيطر أهالي القرية فعلياً إلا على 366 ألف متر مربع فقط من مساحة القرية الكلي البالغ نحو 22 مليون متر مربع، لأن الجزء الأكبر من الأراضي صنفته إسرائيل، إما مناطق “نفوذ أمني” أو “مناطق خطرة”.
ويرى نضال البوم رئيس مجلس قروي قريوت، أن “أزمة المياه التي افتعلها المستوطنون ومحاصرة القرية في مصادر المياه المتبقية، بخاصة في المناطق الزراعية، يهدف إلى دفع المزارعين لهجر أرضهم”، لافتاً إلى أن “وجود المياه في الأرض يشكل أهم مقومات الصمود للفلسطينيين، وشراء المياه أمر مكلف وغير مجد بالنسبة لكثيرين”.
من جانبه، أشار مسؤول ملف الاستيطان في شمال الضفة الغربية، غسان دغلس، إلى أن “المستوطنين يسارعون إلى تحويل بعض مناطق الينابيع في الضفة الغربية إلى مزارات للاستجمام والسياحة واللعب، قبل تحويلها إلى مناطق عسكرية مغلقة يمنع العرب من الاقتراب أو الاستفادة منها”.
وخلصت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، في افتتاحية عددها الصادر في 15 من أكتوبر الماضي، إلى أن “هناك وزراء في الحكومة يؤمنون بالمشروع الاستيطاني، وهم ورفاقهم في الائتلاف الحكومي يشجعون على البلطجة والسيطرة على الأرض، ويؤيدون عنف المستوطنين”.
تصعيد متواصل
يرى فلسطينيون، أن عملية القتل التي تعرض لها محمد فواقة (21 سنة) أثناء تنزهه قرب عين المياه في قرية دورا القرع القريبة من رام لله في الـ18 من أكتوبر الماضي، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن المستوطنين ينفذون مخططاً سياسياً لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، وهو ما يعكسه قتلهم تسعة فلسطينيين في الأقل وجرحهم العشرات منذ بدء الحرب وتنفيذهم أكثر من 350 اعتداء منظماً عليهم.
كذلك فإن التقارير التي وصلت إلى مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة “بتسيلم” أخيراً، تفيد بأن المستوطنين “أغاروا على تجمعات فلسطينية شتى معززين بالسلاح أحياناً وبمرافقة جنود في أكثر من حالة”.
ونبهت المنظمة إلى “هدم المستوطنين مباني وقطع أشجار وسرقة محاصيل زراعية، وإتلاف وتقطيع أنابيب المياه وسد طرق زراعية يستخدمها السكان الفلسطينيون لمنعهم من الوصول إلى أراضيهم، وتوعدوهم بالأذى إذا ما رفضوا إخلاء منازلهم وأراضيهم خلال مهلة محددة”.
وبحسب خبير الخرائط والاستيطان عبدالهادي حنتش، “هدمت السلطات الإسرائيلية خلال الأعوام الأخيرة ما لا يقل عن 500 بئر لتجميع المياه ودمرت ما يزيد على 100 نبع وعين ماء، واستولت على ما يزيد على 52 في المئة من المياه الفلسطينية في الضفة الغربية، ولم تترك للفلسطينيين سوى 16 في المئة من مياههم”.
وأضاف “أن الفلسطينيين لا يستطيعون الاستفادة من مياه الأمطار، لأن السلطات الإسرائيلية تمنع الهيئات والمؤسسات الفلسطينية المتخصصة من إقامة السدود لتجميع المياه”.
وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء وسلطة المياه الفلسطينية، فإن معدل استهلاك الفرد الإسرائيلي من المياه يزيد بثلاثة أضعاف على نظيره الفلسطيني، إذ بلغت حصة الإسرائيلي نحو 300 ليتر في اليوم، ويتضاعف هذا المعدل للمستوطن الإسرائيلي الذي يتراوح معدل استهلاكه من المياه يومياً بين 400 و700 لتر، وهي أكثر من سبعة أضعاف ما يستخدمه الفرد الفلسطيني، الذي يستهلك 86 ليتراً في اليوم فقط، وهي كمية أقل من الحد الأدنى الموصى به عالمياً، بحسب معايير منظمة الصحة العالمية البالغ 100 ليتر في اليوم، وذلك نتيجة السيطرة الإسرائيلية على أكثر من 85 في المئة من المصادر المائية الفلسطينية.
تخوفات جدية
تصاعد اعتداءات المستوطنين وأطماعهم في السيطرة على عيون المياه، لم تنحسر فقط في قرية قريوت، بل طالت كذلك برك سليمان الثلاث في بلدة أرطاس جنوب مدينة بيت لحم بالضفة الغربية، التي تزيد مساحتها على 30 ألف متر مربع، وتحيط بها مساحة مماثلة من المحميات الطبيعية، وتمثل مصدراً للماء لمدينة القدس، حيث يقدم مستوطنون على اقتحام البرك بحماية من الجيش بشكل متكرر لأداء طقوس تلمودية، ويتخوف الفلسطينيون جدياً من السيطرة على البرك وعدم قدرتهم على ترميمها وتطويرها، بسبب تمدد مستوطنة “أفرات” القريبة من البرك بشكل خطر.
ويخشى سكان بلدة حوسان وفيها 17 نبعاً للمياه، على الخط الفاصل بين الضفة الغربية ومدينة القدس، من سيطرة المستوطنين على منطقة “عين الهوية” التي تزود عشرات المزارعين بالمياه لري مزروعاتهم، بخاصة أن إسرائيل تمكنت من السيطرة على نحو 4 ملايين متر مربع من أراضي البلدة، لبناء مستوطنة “بيتار عليت” التي تعد ضمن تجمع مستوطنات “غوش عتصيون” جنوب بيت لحم، كما تمنع الفلسطينيين من ترميم العين أو تأهيلها بحجة أنها تقع ضمن أراضي مصنفة “جيم” وتخضع للسيطرة الإسرائيلية الكاملة.
ولم يعد أهالي قرية النبي صالح غرب رام الله، يستفيدون من “عين القوس” المائية، التي تقع قرب قريتهم، بسبب سيطرة المستوطنين عليها، حيث أعادوا تسمية المكان باسم يهودي “معان مائير”، وبات ممنوعاً على الفلسطينيين الاستفادة أو الاقتراب منها بشكل قطعي.
وكذلك الأمر في منطقة “عين بوبين” القريبة من رام لله، إذ منع الفلسطينيون الوصول إلى العين، بعد أن زرع أحدهم عبوة ناسفة في مكان قريب من النبع، أدى تفجيرها إلى مقتل مستوطنة. وبحسب معهد الأبحاث التطبيقية “أريج”، تسيطر إسرائيل على 113 نبعاً و271 بئر مياه في المنطقة المصنفة “جيم”، ويشكلون ما نسبته 42.5 في المئة من مجموع عدد الآبار والينابيع في الضفة الغربية، في حين تسبب بناء جدار الضم والتوسع بعزل 27 بئراً ارتوازية و32 ينبوعاً خلف الجدار.
يقول الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي عن ذلك، “في ينابيع الفصل العنصري هذه، لا يمكن تحلية المياه المسروقة، إذ يقف المالكون الأصليون من وراء نوافذ منازلهم لا يستطيعون فعل شيء سوى النظر بيأس إلى بساتين الزيتون المهملة والينابيع والأراضي التي سرقت منهم وأجبروا على التخلي عنها”.
ووفقاً لمؤسس منظمة “كيرم نفوت” المعنية بدراسة سياسة الأراضي الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، درور إتكس، “يوجد في وسط الضفة الغربية أكثر من 60 ينبوعاً يطمع المستوطنون بها، ويستولي الآن عليها كجزء من مشروع النهب الذي بدأ منذ 10 أعوام”.
وأضاف “تم الانتهاء من أعمال الترميم والتجديد لنحو نصفها، ونزعت الملكية ومنع الفلسطينيين من الاقتراب من الينابيع وأراضيهم، وما زالت الينابيع الأخرى مستهدفة من قبل المستوطنين في المراحل المستقبلية المختلفة”.
وأوضح إتكس أن الاستيلاء على الينابيع هو جزء من خطة طموحها أكبر بكثير، تسعى إلى السيطرة على المساحات المفتوحة المتبقية في الضفة الغربية، بهدف عزل القرى الفلسطينية، بدلاً من عزل المستوطنات، والاستيلاء على مزيد من الأراضي.
ويجرى تنفيذ ذلك، وفقاً للمنظمة، من طريق إنشاء مناطق للاستحمام ومسارات للمشي لمسافات طويلة، وإنشاء القبور للشخصيات الروحية اليهودية على أنها “مواقع مقدسة”، وتطوير مواقع للنزهات، وكلها تقع في أراض خاصة مملوكة للفلسطينيين.
أوامر عسكرية
بحسب أبحاث ومتابعات معهد “أريج”، أصدرت السلطات الإسرائيلية خلال العامين الماضيين، نحو 58 أمراً عسكرياً استهدفت قطاع المياه في الضفة الغربية، التي شملت مد خطوط مياه في الأراضي الفلسطينية لصالح المنشآت الاستيطانية، إضافة إلى تعزيز البنية التحتية التابعة لها، في سبيل تحويل المصادر المائية الجوفية والسطحية تحت السيطرة الإسرائيلية، والتحكم في الكميات التي تزودها للفلسطينيين مع الأخذ بعين الاعتبار “الأولوية القصوى للمستوطنين القاطنين في المستوطنات الإسرائيلية”.
وأوضح المعهد أن هذه الأوامر أدرجت تحت مظلة الأمر العسكري الإسرائيلي رقم “92” الصادر في 15 يوليو (تموز) 1967 الذي ينص على “منح كامل الصلاحية بالسيطرة على جميع المسائل المتعلقة بالمياه لضابط المياه الإسرائيلي المعين من قبل المحاكم الإسرائيلية”.
وفي الـ12 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، وبينما ينشغل الفلسطينيون بمتابعة شاشات التلفاز وما يجري في غزة، أصدرت السلطات الإسرائيلية ثلاثة أوامر عسكرية جديدة تستهدف مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية تحت ذريعة “محميات طبيعية ومناطق حرجية”.
لعل أول هذه الأوامر العسكرية يعني بتعديل حدود لأمر عسكري إسرائيلي صدر في 22 يونيو (حزيران) من عام 1988 في منطقة “عين فشخة” (تسمى إسرائيلياً عینوت تسوكیم) ويقضي بإضافة ما مساحته 5041 مليون متر مربع من الأراضي الفلسطينية إلى المنطقة الواقعة إلى الغرب من منطقة البحر الميت والقريبة من مستوطنة “إفينات” الإسرائيلية.
فيما يستهدف الأمر الثاني كذلك تعديل حدود محمية “قمران” الطبيعية الواقعة إلى الغرب من منطقة البحر الميت، وجنوب مستوطنة “كاليا” الإسرائيلية، بإضافة 410 آلاف متر مربع إلى المحمية التي أعلنتها إسرائيل عام 1969 بشكل رسمي محمية طبيعية إسرائيلية، في حين أعلن الأمر العسكري الثالث بمصادرة مليون و212 متر مربع من أراض من بلدات يعبد وكفر راعي وعرابة في محافظة جنين شمال الضفة الغربية، لمصلحة مستوطنة “دوتان”، بذريعة إقامة محمية وغابة طبيعية جديدة هناك، وذلك استناداً إلى “قانون الأحراج والغابات لعام 1927”.
منذ سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية عام 1967، أعلنت السلطات في تل أبيب عن 140 موقعاً على أنها محميات طبيعية، بمجمل مساحة 705 كم مربع، وما نسبته 12.5 في المئة من المساحة الكلية للضفة الغربية، كما تخطط لإعلان 53 موقعاً آخر كمحميات طبيعية بموجب أوامر عسكرية، وبمجمل مساحة 350كم مربع من مساحة الضفة الغربية، تتوزع معظمها في المنحدرات الشرقية وفي منطقة غور الأردن.
وأجمع مراقبون ومتخصصون في الشأن البيئي الفلسطيني ومراكز حقوقية عديدة، أن هذه المحميات التي تسيطر عليها إسرائيل على أسس بيئية، تمهد بشكل أو بآخر تحويل كثير منها في ما بعد إلى مستوطنات إسرائيلية أو قواعد عسكرية.