اعتاد الدمشقيون في الآونة الأخيرة سماع دوي انفجارات بصورة متكررة ناتجة من قصف إسرائيلي لمواقع إيرانية أو عن دفاعات جوية تتصدى لصواريخ إسرائيلية موجهة، لكن لم يكن في حسبانهم أن تتخطى تل أبيب كل مقاييس الجرأة وتذهب إلى ضرب مقر من مقار الدبلوماسية الإيرانية على الأرض السورية.
ووسط ذهول الشارع السوري، وفي موقع يتوسط العاصمة دمشق “أوتوستراد المزة”، دمر الانفجار بصورة كاملة أحد مقار السفارة الإيرانية، والذي يعد مكاناً لإقامة السفير الإيراني، ساعة الظهيرة، وشوهدت أدخنة النار تتصاعد من مكان يغص بالمارة والمركبات العابرة، في حين أعلن الحرس الثوري في بيانه مصرع سبع شخصيات بينهم أكبر مسؤول بالحرس داخل سوريا، محمد رضا زاهدي، إضافة إلى نائبه محمد حاج رحيمي.
لا تخلو البيانات والتصريحات الرسمية من الإدانات شديدة اللهجة، فمن فوق ركام المقر الملحق بالسفارة الإيرانية جاء على لسان السفير الإيراني، أن بلاده سترد “بصورة حاسمة”، بينما وصف وزير الخارجية من طهران، أمير عبداللهيان ما حدث بأنه “خرق لكل المواثيق الدولية”.
ويعد زاهدي أحد كبار القادة في فيلق القدس التابع للحرس الثوري وكان مسؤولاً عن وحدة العمليات في سوريا ولبنان وعن عمل الفصائل الإيرانية هناك، وكذلك عن العلاقات مع “حزب الله”، كما أشرف على العمليات في سوريا ولبنان التي تشن على إسرائيل، واعتبرت إذاعة الجيش الإسرائيلي عملية تصفيته إحدى أهم العمليات بعد اغتيال الولايات المتحدة لقاسم سليماني عام 2020 بالعاصمة العراقية بغداد.
وبرز زاهدي كرئيس لـ”فيلق القدس” في لبنان وأدرجته وزارة الخزانة الأميركية ضمن العقوبات عام 2010 كونه لعب دوراً رئيساً بضمان إيصال شحنات الأسلحة إلى حزب الله اللبناني وفق بيان وزارة العدل الأميركي.
ويعد زاهدي مصدراً مهماً في الحرس الثوري ويمتلك تجربة طويلة، وأشارت مدونة الاستخبارات “إنتل تايمز” إلى كونه من يحرك القوات الإيرانية عبر الوحدة 18 ألف في سوريا والوحدة 2000 في لبنان، وشغل سابقاً منصب نائب رئيس عمليات الحرس الثوري الإيراني خلال السنوات 2016 حتى 2019 وتولى قيادة كتيبة الحرس في الحرب العراقية – الإيرانية في الثمانينيات.
ودعت البعثة الإيرانية لدى الأمم المتحدة إلى محاسبة المتسببين بضرب المبنى واعتبرت ما حدث خطراً كونه يمثل هجوماً على هيئة دبلوماسية، وأن للمباني الدبلوماسية والقنصلية حرمة في اتفاقية العلاقات الدبلوماسية لعام 1960 واتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963 وكذلك اتفاقية 1973 المتعلقة بالموظفين الدبلوماسيين.
إيرانياً، وبعيداً من التصريحات الرسمية جاءت ردود الفعل من الشارع الإيراني بخروج تظاهرات إلى ساحة فلسطين في طهران في وقت متأخر من يوم الأول من أبريل (نيسان) الجاري للمطالبة باتخاذ إجراءات صارمة بحق هجوم تل أبيب، وجاء في تغريدة نشرها أحد كبار مساعدي رئيس البرلمان الإيراني، مهدي محمدي تأييده لنقل القتال إلى إسرائيل، ومع اعتقاده أنه يوجد إصرار من قبل إسرائيل لتجنب حرب مباشرة مع إيران، فإن “اختيار عدم الرد خوفاً من إثارة صراع مباشر لا معنى له”.
حرب استخبارات
ومن اللافت وضمن ردود فعل الدول التي دانت الانفجار موقف موسكو، إذ أعلنت استنكارها، وهو إعلان يأتي بعد سيل من الهجمات والضربات المعادية، بخاصة أن الشارع السوري ينتقد صمت منظومة الصواريخ المتطورة “أس 300″، و”أس 400” الروسية التي تستطيع اصطياد الأهداف المعادية، وعدم عملها علاوة على وجود قواعد عسكرية بحرية متطورة في ريفي اللاذقية وطرطوس، غرب البلاد. وقالت الخارجية الروسية إن “هذه الأعمال العدوانية غير مقبولة ويجب أن تتوقف” وطالبت المجتمع الدولي بتحديد موقفه بوضوح والتقييم القانوني المناسب لهذه الإجراءات.
في المقابل ينظر مراقبون إلى كون الهدف الثمين الذي اصطادته تل أبيب يأتي بعد اختراقات أمنية متتالية لم تتوقف فإنها أخطأت الزمان والمكان هذه المرة، وتشير المعطيات إلى كونه جاء بتوقيت اجتماع ضم قادة الحرس الثوري ومسؤولين من حركة الجهاد الإسلامي، وهو الفصيل الفاعل في معركة غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023 ويأتي بعد زيارة لرئيس الحركة إلى إيران.
في حين يفتح الاستهداف أبواب حرب الاستخبارات والمعلومات عن تمركز القادة من الحرس الثوري ونشاطهم وتزايد عمليات اغتيالهم، لا سيما بعد اندلاع معركة طوفان الأقصى كرسالة من حكومة تل أبيب للداخل الإسرائيلي الغاضب في شأن تعثر عمليات المفاوضات والإفراج عن الرهائن، ومقدرتها على إحراز إنجازات ميدانية حتى خارج الحدود، وجاء ذلك باغتيال كبير المستشارين الإيرانيين في سوريا، رضا موسوي في منطقة “السيدة زينب” وهي إحدى ضواحي دمشق، تبعها تصفية خمسة مستشارين إيرانيين في مبنى بحي “فيلات المزة” في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، وتكررت الضربات مع التركيز على العدد، ونوعية القصف المتواصل واتساعها في جنوب البلاد، وكذلك في الشمال السوري، حيث لقي أكثر من 50 شخصاً مصرعهم بينهم 38 عسكرياً وستة من أعضاء “حزب الله” بضربة على مواقع في مدينة حلب، شمالاً.
في هذه الأثناء يرى مراقبون أنه لم يعد لدى طهران رفاهية الوقت أو الخيارات في حال أرادت الرد بعد أن وجدت نفسها بموقف حرج وضعيف بأعين حتى جمهور المقاومة في سوريا ولبنان ودول محور الممانعة، فإما أن ترد بصورة واضحة وصريح على مبدأ “العين بالعين” أو تتحفظ، وتلتزم بقواعد الاشتباك المرسومة، وتتريث لتفعيل الرد العسكري.
ضبط النفس
وثمة تمسك بأسلوب ضبط النفس حيال الاصطدام المباشر مع إسرائيل ومن المحتمل اختيار الساحات المجاورة (لبنان وسوريا) مجالاً حيوياً لشن هجمات أو قصف صاروخي أو بالطائرات المسيرة، ودون أن تتخلى عن قواعد الاشتباك التي سبقتها إسرائيل بخرقها بهذه الضربة القاسية، بينما تتحرك فصائل المقاومة العراقية والفصائل الموالية لضرب القواعد العسكرية الأميركية في سوريا والعراق بعد توقف وهدوء نسبي في الآونة الأخيرة.
أما السيناريو الأمني الذي يبتعد عن استخدام الساحات السورية كصندوق بريد للرسالة الإيرانية قد يتمثل بالإقدام على شن هجمات تستهدف مقار دبلوماسية إسرائيلية في أي بلد من بلدان العالم، وحتى يمكن ضرب موقع للموساد، أو تصفية عملاء بارزين له كما حدث حين قصفت بوقت سابق مقراً للموساد في أربيل، بإقليم كردستان العراق في الـ16 من يناير الماضي، قرب القنصلية الأميركية.
وثمة غضب يسري في الشارع السوري حيال الهجمات المتكررة على المواقع الإيرانية. وطالب سوريون بعدم تحويل ساحتهم إلى رسائل تصفية حسابات على أرض مزقتها الحرب منذ عام 2011، ودان وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد الحادثة ووصف الاعتداء بـ”العمل الإرهابي الشنيع”، مضيفاً في سياق تصريحه الصحافي بأن إسرائيل لن تستطيع التأثير في العلاقات التي تربط بين إيران وسوريا.
في غضون ذلك يستبعد مراقبون توسيع طهران رقعة الحرب، وفتح ساحات اقتتال جديدة، وهي أساساً تعاني وضعاً داخلياً متأزماً، علاوة على معلومات استخباراتية تفيد بتهديدات وصول تنظيم “داعش”، وسط مخاوف أمنية كبيرة بخاصة على طول حدودها مع أفغانستان والبالغة 921 كيلومتراً، وهي حدود بطبيعة الحال طويلة ومعقدة وسهلة الاختراق، لا سيما أنها تعج بنشاطات للجماعات المتشددة ويمكن لها التسلل للأراضي الإيرانية، وهذا ما دفع وزارة الدفاع الإيرانية إلى إجراءات أمنية من خلال نشر كاميرات مراقبة ومروحيات وطائرات من دون طيار على الحدود الشرقية، حيث يتملك إيران مخاوف من تكرار حادثة “كرمان” في يناير الماضي، والتي أسفرت عن مصرع 100 شخص.